مصائر شخصيات ما بعد الحرب ضمن عرض مسرحي في دمشق

يقدم العرض المسرحي الجديد "في رواية أخرى"، تفاصيل عن حياة بالغة القسوة، شديدة الاغتراب، تدور أحداثها في دمشق بين شخصيات بأفكار وهواجس مختلفة. هو عرض يقدم فرضية: ماذا لو كانت هنالك رواية أخرى للأحداث والمصائر؟
دمشق - كثيرا ما وجه اللوم إلى المسرح القومي أو ما يعرف بمصطلح المسرح الجاد في سوريا بأنه يقدم عروضا مسرحية تتناول موضوعات إنسانية عميقة، لكن من خلال مقولات أجنبية مترجمة ينقلها من نصوص معربة عن كبريات قامات المسرح في العالم مثل شكسبير وبريخت وأبسن وتشيخوف وغيرهم. وقليلا ما كانت تظهر في هذا الشكل المسرحي موضوعات حياتية معاصرة وحارقة تعنى بالتفاصيل اليومية للناس، في أدق أمور حياواتهم من المسكن والملبس وعلاقات الجوار ونمطية الحياة الاجتماعية بكل تشكلاتها.
مسرحية "في رواية أخرى" للكاتبة لوتس مسعود والمخرج كفاح الخوص وإنتاج المديرية العامة للمسارح والموسيقى بدمشق، تذهب في هذا الاتجاه، فنجد فيها تناولا مباشرا حياتيا معاصرا يناقش أزمة الإنسان السوري الحالية مظهرا هزائمه الروحية والاقتصادية. فمنذ اللحظات الأولى في العرض نجده مستعرضا حكاية اجتماعية بسيطة لكنها عميقة يمكن أن توجد في الكثير من الأحياء.
في مسار الحكاية قصة زوجين، كاتب (كفاح الخوص) يعيش تناقضا صارخا بين ما يتمناه في مجتمع وحياة وبين واقع مرير تفرضه الحياة عليه في مسارات قسرية، وفي الطرف الآخر زوجته (مرح حجاز) التي تعاني من مزاجيته الخاصة، وتقلباتها التي تصل بهما درجات قصوى من الصدام النفسي، إلى حد الوصول إلى درجة العجز الجنسي الذي يعاني منه الرجل ويعتقد أنه سبب جوهري لتوجه زوجته نحو تبني سلوكيات توحي بمشروع خيانة زوجية حسب رأيه، في الوقت الذي ترفض هي الفكرة وتتهمه بأنه عاجز في كل تفاصيل الحياة وليس فقط هنا.
تصل الزوجة إلى شفير اتخاذ قرار ترك الزوج والمطالبة بالطلاق بعد حوار عنيف بينهما ينتهي بخروجها غير اللائق من بيتها. لتبدأ مرحلة تالية من أحداث المسرحية، يتداخل فيها الخيال بالحقيقي من خلال استحضار شخصيات روائية كتبها بطل العرض وصراعاته معها ثم انتصاراته المزعومة عليها في فوضى من المشاعر والرغبات والنتائج الحقيقية التي تفرضها الحياة.
مواجهة مع الواقع
ترسم المسرحية في هدفها الأعلى، مسارا نحو فرضية أن تكون ظروف هذه الشخصيات مختلفة وتكون هناك رواية أخرى لمصائرها. حياة الناس في سوريا في زمن ما بعد الحرب بالغة التعقيد وصلوا خلالها إلى حد الغرق في التفاصيل اليومية الحياتية التي تشغل إلى أقصى الدرجات الاهتمام بها وتذهب بهم بعيدا عن أمور يفترض أنها أكثر أهمية وإنسانية.
فتأمين فرص العيش الكريم والعادي من مأكل ومشرب وملبس وتعليم وصحة صار هو المحرك الأساسي لنشاط الناس والمعني بتفكيرهم وطموحاتهم التي ابتعدت كثيرا عن طموحات أكثر تعقيدا اندثرت بظروف الحرب القاهرة وما بعدها.
والسؤال المطروح هنا، ماذا لو كانت الظروف مختلفة؟ وماذا لو كانت لهؤلاء رواية أخرى للأحداث؟ هل كانوا سيصلون إلى ذات المصائر؟ وهل كانوا سيتخذون القرارات نفسها؟ فرضية فكرية يقدمها العرض المسرحي "في رواية أخرى" محاولا اختراق حاجز فكري بين ما كان وما يمكن أن يكون.
قدمت لوتس مسعود سابقا عرضين مسرحيين هما "كأنو مسرح" و"هوى غربي"، كانا بتوقيع والدها غسان مسعود الفنان المسرحي الشهير، وهي تتعامل للمرة الأولى مع مخرج مسرحي آخر هو كفاح الخوص. ترى لوتس أن "المسرح مساحة تعنيها لتقديم ماذا نملك في أعماقنا كبشر لديهم مشاكل وآلام وأحلام، والمسرح وسيلة للهروب من الواقع المؤلم في اتجاه مساحة حلم نبني فيه عالما افتراضيا أجمل".
بناء على تلك المقولة قدمت في عرضها مقولات يحلم بها أناس عاديون يعيشون حياة غير عادية. ويبدو أن الدخول في التفاصيل الحياتية هاجس فيما تريد لوتس الكتابة عنه. فهي كتبت في هذا الاتجاه مسرحيتها وكذلك فيلمين روائيين قصيرين مع المؤسسة العامة للسينما هما “أول يوم” روت به تفاصيل حياتية عن أول يوم عاشه الناس بدمشق بعد توقف الحرب في محيطها وتوقف سقوط القذائف، كما فاز نص لها في وقت لاحق بمسابقة لمؤسسة السينما حمل عنوان “الخروج إلى الداخل” نفذته إخراجيا مع ذات الجهة وكان فيلمها الروائي القصير الثاني تناولت فيه تفاصيل حياتية ونفسية عن شخص يعاني أوضاعا خاصة.
قدم العرض المسرحي نماذج عن شخصيات تراوحت بين الحقيقي والخيالي، فالبداية كانت مع الجارة المسنة والمتصابية (أمانة والي) صاحبة البيت التي تمتلك قدرا كبيرا من طاقة التطفل وتسعى إلى أن لا يفوتها تفصيل واحد من حياة الناس. فهاتفها الجوال دائما في يدها تحادث به شخصيات في محيطها تعيش حالتي الفراغ والتفاهة.
على جانب آخر تقدم شخصية جبران (كفاح الخوص) الكاتب الذي يعاني حالة عدم توازن نفسي مع ذاته ومحيطه في آن معا والمشاكل التي يخلقها ذلك، أما الشخصية الثالثة فكانت زوجته (مرح حجاز) التي عانت ولا تزال من قسوة ظرفها المعيشي مع زوجها المنزوي في بيته والرافض لأسباب الحياة العصرية والذي يتحول إلى شخص معزول ومهزوم.
بين الحقيقي والخيالي
نقطة الانعطاف الحادة في تشكيل شخصيات العرض تكمن في مرحلة ما بعد مغادرة الزوجة الغاضبة بهدف الطلاق، حيث تبرز في حياة الكاتب شخصيات قريبة منه تمثل شخوصا حقيقيين في المجتمع. الأولى هي شخصية لص شاب (حشكو، علي إسماعيل)، متهور متحكم، يظهر في حياة الكاتب ليقوده إلى متاهات فكرية تجعله في مواجهة حارة مع ذاته تجاه زوجته، وينتهي الأمر بأن يقتله خطأ ويخفي جثته في قعر الأريكة الموجودة في الصالة.
وليس بعدها بكثير تظهر شخصية خريج اللغة العربية (فوكس، سليمان رزق) الذي يعمل مرافقا لراقصة تسكن في نفس العنوان، والذي لا يملك تحت ضغط الحياة إلا أن يقبل أي وظيفة تعرض عليه لكي يتغلب على عوزه، وبعد نقاش حار وعنيف آخر وتقاذف بالشتائم واللعنات تصل الأمور إلى درجة الصراع الجسدي، حيث يقتل الكاتب جبران ذلك الشاب الزائر عندما يهدده بأنه سيفضح أمره بأنه قاتل ويخفي جثته في البراد.
◙ المسرحية في هدفها الأعلى ترسم مسارا نحو فرضية أن تكون ظروف هذه الشخصيات مختلفة وتكون هناك رواية أخرى لمصائرها
يخفي الكاتب الجثة مجددا في الكنبة. وفي لحظة فارقة تدخل للأجواء شخصية تمتلك سحرا خاصا، إنها الراقصة المتصابية (شوشي، وئام الخوص) التي تسكن في ذات العنوان الذي يسكن فيه الكاتب، يتجادلان في أحقية ملكية البيت ثم تدور بينهما حوارات تكشف بعضا من تفاصيل حياتهما. كالعادة، تنتهي الأمور بأن يقتل الكاتب مجددا شخصية الراقصة ويودعها أحد الأمكنة في المنزل، ثم تظهر شخصية الطبيب المجنون (سعيد، نوار سعدالدين) الذي يواجهه ويكاشف المخبوء فيه ويوقفه عند حقيقة ما فعله، لتعود شخصياته التي كتبها وتمردت عليه لمحاصرته بقوة.
أربع شخصيات افتراضية وثلاث حقيقية تناوبت على تقديم أحداث العرض المسرحي في عمل استنفد طاقات جسدية كبرى. اتسم العرض بالحيوية والحركة التي يتميز بها مسرح كفاح الخوص عموما. وهو من المخرجين الذين يعملون على استنفاد كل طاقة الجسد سواء في حركاته الخارجية أو تعابير الوجه أو نبرات الصوت لإيصال الأفكار التي يريد العرض الوصول إليها.