مشوار قصير
قبل ثورة الاتصالات، ذهبت بدعوة من صديقين؛ والد وولده، لزيارة مصنع العطور الذي يديرانه في أحد الأرياف، فأدهشتني تقنيات تقطير ورق الورد المزروع في البساتين المحيطة وعبيره الفواح.
ولكن سرعان ما تشاجر الاثنان في صراع أجيال على الإدارة، فخرج هذا من باب وذاك من باب. ووجدت نفسي وحيدا في قرية صغيرة من قرى ما يعرف بـ”وادي النصارى”.
ووادي النصارى هذا، واد سحري أخضر وسط الشرق اللاهب، تسبح في ثناياه قرى تتخللها الغابات. تعود تسميته إلى كون سكانه غالبيتهم من المسيحيين، لطالما شكلت تسميته حرجا للجميع، وقد أراد جمال عبدالناصر مرة أن يكحّلها فعماها، فقال غاضبا “لماذا لا نضع نقطة ونغيّر آخره ونخلص بقى؟”. فأصبح اسم الوادي “وادي النضارة”. لكن أهل الوادي الذين اعتادوا على الهجرات، بسبب السعادة والمساواة، لم يقبلوا بالتسمية الجديدة.
وريثما يتصالح الرجلان، تمشيت في تلك القرية وحيدا، على مقربة من دير مارجرجس العتيق، وبين البيوت قرميدية السطوح، دلّني الأهالي على بيت قالوا إن فيه أجمل قصة صحافية على الإطلاق.
عثرت على رجل عجوز يجلس قرب سور البيت الحجري، وعلى مسافة عشرة أمتار تتحدث امرأة، في مثل عمره، مع دجاجاتها وديكها. وبينهما رجل حائر في الستين من عمره، رحب بي وقال: أهلا وسهلا تفضل أعرّفك على الوالد.
وكان ذلك الوالد كئيبا منطويا. قال الابن: هذا أبي الذي خرج من بيتنا قبل 50 سنة. ليشتري كيس شاي، فعاد قبل أيام بعد أن انقطعت أخباره كل هذه المدة. أما هذه المرأة فهي أمي، وهي “عاتبة” عليه قليلا وترفض الحديث معه.
“لماذا فعلت هذا يا طنّوس؟” سألته. فأجاب: “والله لم أنتبه، رأيت شبابا قرب الدكان، قالوا تعال معنا نهاجر، فذهبت، ومرّ الوقت بسرعة”.
وفي العام 1960 بعد فعلة طنوس تلك بسنوات قليلة، تغيرت الأغنية العربية، عندما قدّم الشاعر اللبناني جزل العبارة قوي العربية، سعيد عقل قصيدته التي غنتها فيروز.
وكانت نقلة نوعية في حياتنا، فهي تستعمل عبقرية المنجز الشعري الوجودي وجسر المحكية “مين قال حاكيتو وحاكاني عدرب مدرستي؟/ كانت عم تشتّي/ ولولا وقفتْ رنّخت فستاني/ وشو هم كنا صغارْ/ ومشوار رافقتو أنا مشوارْ/ امبارح بنومي بصرتْ/ إني عزندو طرتْ/ والأرض مفروشة كلا ياسمينْ/ إن صحّ الحلم شو صار؟/ ومشوارْ جينا عالدني مشوارْ”.
لم ينتبه طنوس إلى مرور الزمن، رغم أنها عشرات السنين، ولم تغفر المرأة غيبته تلك، رغم عودته الغرائبية وكأنه طيف قادم من العالم الآخر. وكأنه عاد من “مشوار”.