مشهد آخر لموت الأيديولوجيا

لقد توسع النظام خارج حدوده بدل الاهتمام بجودة الحياة وباقي مؤشرات التنمية لصالح الإيرانيين. وبدد ثروات البلاد في دول لا تقتصر على لبنان وسوريا والعراق واليمن على حساب رفاهية المواطن الإيراني.
الثلاثاء 2019/11/26
الشعب الإيراني يعيش البؤس والعوز بسبب سياسة نظامه

وصول حصيلة قمع المظاهرات في إيران، التي اندلعت الأسبوع الماضي بسبب رفع الحكومة لسعر البنزين، إلى المئات من القتلى والآلاف من الجرحى يؤكد أن البلاد دخلت مرحلة اللاعودة.

هناك عاملان مهمّان في اندلاع الأحداث الشبيهة بتجربة ما سمي بأحداث الربيع العربي، والتي هي استمرار لاحتجاجات سابقة بدأت في ديسمبر 2017.

العامل الأول هو أن الجيل الذي يتظاهر في إيران اليوم لا يعرف الخميني ولا الثورة الإسلامية، ولا يرى في الغرب عدوا أصلا. هو جيل يعيش البؤس والعوز، وتأثر بظاهرة العولمة واطلاعه على ما يحدث في العالم بعد اختراق الحدود من خلال الفضائيات وتطبيقات التواصل الاجتماعي.

الاستقلال والسيادة اليوم لم يعودا يحميان حدود الدولة الجغرافية عسكريا وأمنيا. فالسيادة أصبحت مرتبطة بمدى قدرتك في التأثير على الآخرين ومدى قدرة الآخرين على التأثير فيك وعليك.

التغيرات الكبرى للشعوب ينبغي أن تقود الدول للأمام والرفاه. فثورة الشعب الألماني وإسقاط سور برلين حققا توحيد ألمانيا

فهذا الجيل أصبحت له متطلبات ملحة لم تعد كمالية مثل اقتناء الأجهزة والهواتف الذكية الحديثة مثل آيفون وآيباد والملابس من ماركات عالمية معروفة.

وأصبح يريد السفر ورؤية العالم وغير ذلك الكثير مما هو ليس في متناول الشاب الإيراني اليوم، وهي مطالب ملحة لا يستطيع مقاومة إغراءاتها.

العامل الآخر، هو الوقوع في فخ البروباغاندا الغربية تمتد من نشر ثقافة الحلم الغربي والديمقراطية، التي فعلت فعلها مع دول ما يعرف بالربيع العربي، إلى جانب الثقافة الاستهلاكية المسطحة التي تسوق للمنتجات الغربية.

الثورة الإيرانية الأولى في عام 1979 كانت ثورة نظيفة، لكنها اختطفت من قبل الإسلاميين وأوصلت الخميني إلى السلطة لتتحول إيران إلى دولة ثيوقراطية تقوم على نشر الفقه الشيعي الفارسي تحت شعار تصدير الثورة.

لقد أرادت إيران أن تكون مركزا للعالم الإسلامي الشيعي مثلما ترغب تركيا اليوم في أن تكون مركز الإسلام السني.

فهل سيتمكن نظام طهران من الاحتفاظ بكراسيهم في ظل ثورة شعب وصل مرحلة اللاعودة بعدما انتقلت مطالب الشارع من تحسين الوضع الاقتصادي إلى إسقاط النظام ووصلت إلى إحراق مبنى يضم قبر الخميني؟

هل سيتمكن نظام طهران من الاحتفاظ بالسلطة في ظل ثورة شعب وصل مرحلة اللاعودة وتحولت مطالبه من تحسين الوضع الاقتصادي إلى إسقاط النظام؟

وبعد سقوط القتلى وسيلان الدم وتصاعد الهتافات التي تنادي بالموت لخامنئي في شوارع إيران وتصريح مرشد الثورة مؤخرا بأنه لا تراجع عن قرار رفع سعر البنزين، كيف سيواجه نظام بدد أمواله على أيديولوجيا وسلاح نووي لم يكتمل بعد. فالسياسة معنية بالنتائج وليس النوايا.

لقد توسع النظام خارج حدوده بدل الاهتمام بجودة الحياة وباقي مؤشرات التنمية لصالح الإيرانيين. وبدد ثروات البلاد في دول لا تقتصر على لبنان وسوريا والعراق واليمن على حساب رفاهية المواطن الإيراني.

يبقى الأمر مرهونا في الأيام القليلة القادمة في رغبة المتظاهرين بالتصعيد بعد الدعم الإعلامي الأميركي الواضح ورغبة واشنطن في حصار إيران من خلال العقوبات الاقتصادية ومدى رضوخ  أوروبا والصين وروسيا لها.

قسوة العقوبات ظهرت وطأتها على الاقتصاد الإيراني حيث تراجعت القدرة الشرائية لمتوسط دخل الإيراني من 600 دولار إلى 200 دولار شهريا فقط في ظل تضخم وارتفاع الأسعار.

كما أن الأمر يتعلق أيضا بالصراع على النظام العالمي الجديد وصراع الأوراسيا مقابل الأطلنطي ومدى قدرة النظام على مقاومة ثورة الجياع وإيجاد حلول سريعة بدلا من توجيه تهم العمالة والإجرام لهؤلاء المتظاهرين الشباب!

الاستقلال والسيادة اليوم لم يعودا يحميان حدود الدولة الجغرافية عسكريا وأمنيا. فالسيادة أصبحت مرتبطة بمدى قدرتك في التأثير على الآخرين

نشهد اليوم ظاهرة جديدة لموت الأيديولوجيا، ولا نقصد الإشارة إلى مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ والأيديولوجيا، لأنها كانت مقولة أيديولوجية بالأساس، نابعة من انتصار النسق الفكري الذي يتبناه.

تلك المقولة كانت مرتبطة بزمان محدد ومتفاعلة مع حدث سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، وانخراط الإنسانية في العولمة، وقد تغافلت عن إحدى أبرز سمات الأيديولوجيا، وهي الديناميكية، وهو ما يجعل الحكم المطلق نبوءة حالمة في أحسن الأحوال وليس واقعا حقيقيا.

التغيرات الكبرى للشعوب ينبغي أن تقود الدول للأمام والرفاه. فثورة الشعب الألماني وإسقاط سور برلين حققا توحيد ألمانيا، بل وتوحيد أوروبا شرقها وغربها، واتساع الاتحاد الأوروبي ليضم دول شرق أوروبا الفقيرة في كيان واحد مع دول أوروبا الغربية الغنية. وهذا ما كان ليحدث لولا إسقاط الألمان لجدار برلين.

تلك الثورة حدثت بهدوء نسبي وتبعها عمل وجهد وعرق بعيدا عن الضجيج ودون دماء وحققت تغيرا سريعا نخو الأفضل. وقد ارتبطت بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية. وانعكست في ارتفاع دخل الفرد في أوروبا الشرقية إلى أكثر من عشرين ضعفا وحققت نموا اقتصاديا كبيرا في أوروبا الغربية.

تلك كانت ثورة شبيهة بثورة إيران الأولى قبل أن ينقلب عليها المؤدلجون، الذين أدخلوا البلاد في ما نشاهده اليوم بسبب تغول الأيديولوجيا وصراعها مع جيل لم يعرف لها أي ميزة أو منفعة!

8