مشروع تطوير العاصمة المصرية يرتد عبئا على سكانها

تحاول الحكومة المصرية إعادة ترميم مدينة القاهرة وتطويرها من خلال إنشاء الجسور وتهيئة طرقات، وإعادة الروح إلى أشهر العواصم العربية، غير أن أشغال التهيئة ليست على هوى جميع سكانها، وتحديدا الطبقة الميسورة المتذمرة من تغيير ملامح بعض الأحياء الأرستقراطية، في خطوة تحرج الحكومة وقد تعوق خططها في تطوير المدينة.
القاهرة – صار تجول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في شوارع القاهرة، أيام العطل الرسمية، مشهدا متكررا اعتاد عليه سكان العاصمة، في محاولة لتوصيل رسائل بأنه يتابع منظومة إنشاء الجسور والمحاور بشكل شخصي قصد تسريع الانتهاء منها لعدم تعطيل حياة الناس، والتخفيف من حدة تذمر البعض من كثرة أعمال الحفر في الشوارع، والتي يخشى النظام خروجها عن المألوف.
وتحدث الرئيس السيسي، مساء السبت، عن رؤية منفصلة عن نظرة الكثير من سكان القاهرة للتوسع في إنشاء الجسور العلوية والمحاور المرورية المتعددة بأحياء العاصمة، ويريد التأكيد على أن التركيز على إنشاء مدن جديدة ذكية ومتطورة، لن يكون على حساب القاهرة وتركها تئن من الفوضى والعشوائيات والتكدس.
وأصبحت شريحة كبيرة من أهالي القاهرة أكثر تذمرا وضجرا، لأن حركتها أصبحت مقيدة بسبب أعمال الحفر الموجودة في أغلب الأحياء، أو لارتباط الأمر بالإصرار على إنشاء الجسور في مناطق راقية اعتاد سكانها الهدوء، والمساحات الخضراء التي لجأت الحكومة للتخلص من بعضها لتوسعة الطرقات.
لم يكن كافيا عند الممتعضين من تشويه صورة بعض الأحياء بالكتل الخرسانية أن تحولت المناطق الموجودة أسفل الجسور إلى سلاسل تجارية حضرية، بعدما كانت مأوى للبلطجية والخارجين عن القانون، وصارت تحتضن مقاهي ومطاعم فاخرة ومحلات لبيع الورود، تعيد الاعتبار إلى المكان وتضفي عليه قدرا من التحضر.
غضب سكان حي مصر الجديدة الراقي خرج إلى العلن، بتلويحهم بالاحتجاج ضد إنشاء جسر بجوار كنيسة البازيليك التاريخية
كان لافتا تحول غضب بعض سكان حي مصر الجديدة الراقي، الذي يقع فيه قصر الاتحادية الرئاسي، من الضجر الصامت إلى التذمر المعلن، والتلويح بتنظيم وقفات احتجاجية ضد إنشاء جسر بجوار كنيسة البازيليك التاريخية التي بناها البارون أمبان ودفن فيها، وهو المؤسس الأول للحي في مطلع القرن الماضي، ونظم الأهالي حملة من مثقفين وتراثيين ومفكرين للوقوف في وجه تنفيذ المشروع.
قالت شيماء محمد، وهي تعيش في الحي منذ سنوات، إن “سكان مصر الجديدة لم يسبق لهم الدخول في صراع مع أي جهة حكومية، واعتادوا العيش في هدوء وسكينة بطبيعة انتمائهم إلى حي عرف بالعراقة والتحضر، لكن ما يحدث من إزالة للأشجار وتغييب للتراث غيّر من طباع البعض”.
وأضافت لـ”العرب”، أن “الحكومة لا تفرق بين مناطق شعبية وراقية عند تنفيذ أعمال تستهدف التطوير، وهذا ما أثار امتعاض الشريحة التي تعيش في بيئة لم تعرف من قبل ضجيج عمليات الحفر أو تتعود على اقتلاع الأشجار لتوسعة الطرقات وإنشاء الجسور، فلك أن تتخيل شعور سكان منطقة قريبة من مقر الحكم في مصر، يتم تغيير ملامحها لبناء جسور علوية تصل بالناس إلى مقر الحكم الجديد في العاصمة الإدارية”.
ويوحي المشهد، بأن هناك معارضة جديدة صارت موجودة في الشارع صنعتها التنمية التي لم تأت على هوى شريحة بعينها، والمعضلة مرتبطة بأن هذه الفئة عرف عنها تأييدها للسلطة، فمثلا، أغلب سكان مصر الجديدة من الطبقة الأرستقراطية، ويميلون بشكل أكبر إلى الاستقرار والتقرب من دوائر صناعة القرار التي غالبا ما تسعى إلى إرضائهم باعتبارهم من النخبة.
وأكد جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان جنوب القاهرة لـ”العرب”، أن “الغضب ناتج بسبب بناء مجموعة جسور علوية جراء تراكمات قديمة لم تعالجها الحكومة، والترويج لتأسيس جسر على حساب كنيسة تابعة لطائفة قد يتسبب في أزمة سياسية للحكومة، لأن بعض التيارات المناوئة سوف توظف الحدث لتحقيق أغراض خاصة”.
ووصلت درجة الامتعاض من حجم أعمال الحفر وتوسعة شبكات الطرقات والكباري (الجسور) وخطوط مترو الأنفاق، وتحويل أغلب شوارع القاهرة إلى جسور علوية، إلى حدّ سخرية البعض على شبكات التواصل الاجتماعي من الصورة التي أصبحت عليها العاصمة، بعد تداول صور تعبيرية على نطاق واسع، يتخيل فيها رواد بعض المنصات أن الحكومة ستبني مجموعة جسور وسط الأهرامات الشهيرة في الجيزة.
ويمكن بسهولة اكتشاف الضجر على وجوه الناس بمجرد مرورهم من منطقة تشهد أعمال حفر وتهيئة، فكل الطرقات المؤدية إلى المكان صارت مغلقة، لأن الحكومة عندما تقرر إنشاء جسر علوي، تقوم بتبديل خطوط الصرف الصحي وقنوات مياه الشرب وتركيب شبكة كابلات تليفونية وكهربائية ترهلت بمرور الزمن وصارت متهالكة ولا يصلح استخدامها لأنها تشكل خطورة على الأهالي.
وما يثير استغراب البعض أن سكان هذه المناطق هم الذين استنكروا اهتمام الحكومة ببناء مدن جديدة مقابل إهمال الأحياء القديمة بالعاصمة، مع أن شبكة الطرقات والكباري في القاهرة سهلت المهمة على الناس في التنقل بأريحية دون ازدحام أو اختناقات مرورية كانت تستدعي البقاء في السيارات الخاصة والحافلات العامة لفترة طويلة وصار يتم العبور في بضع دقائق.
وتتعامل الحكومة مع الجسور باعتبارها إحدى أدوات الحكم، لأن زيادة أعدادها يسرع وتيرة التعامل مع الأزمات الطارئة، ويمنحها سرعة التصرف وسهولة الحركة في مواقف معقدة، لكن الأزمة في تنفيذها بسياسة الأمر الواقع حتى لو كانت هناك أصوات غاضبة ومن دون أن تفتح معهم نقاشات وحوارات تجعلهم يشعرون بأنهم المستهدفون من الخدمة.
ومشكلة الحكومة أنها عندما تقرر تغيير شكل وملامح مكان تقوم بتنفيذ كل الأعمال في توقيت واحد، من توسعة طرقات إلى إنشاء كباري وترميم كل الخطوط المهترئة، ما يجعل أهالي كل منطقة يشعرون بأنهم مقيدو الحركة، فلا يمكن دخول السيارات إلى مناطق الحفر، ويستغرق ذلك المشهد وقتا، قد يصل فيه تذمر الناس إلى مداه، ويتحوّل الغضب إلى سخط سياسي.
يمكن بسهولة اكتشاف الضجر على وجوه الناس بمجرد مرورهم من منطقة تشهد أعمال حفر وتهيئة، حيث صارت أغلب الطرقات مغلقة
يصعب فصل ذلك، عن إصرار الحكومة على ضمّ ملف التطوير غير المسبوق في شبكات الطرقات والكباري إلى سجل إنجازاتها القياسية، دون مراعاة لتأثير ذلك على حياة الناس وتحركاتهم اليومية، أو توفير البدائل المناسبة لخفض منسوب الغضب والاحتجاج الصامت على تحويل شوارع القاهرة إلى كتل خرسانية تغيّر من ملامحها التاريخية.
ويرتبط تنفيذ بعض المشروعات بسياسة الأمر الواقع، فهناك سكان حي الزمالك الراقي، القريب من وسط القاهرة، ما زالوا ممتعضين من وجود محطة مترو بالمكان سوف تغيّر ملامحه وعراقته، ولم يتم الاستماع إلى وجهات نظرهم. وأيضا أهالي مدينة نصر، شرق القاهرة، لديهم شعور بالضيق من تهيئة الطرقات بشكل عشوائي قد يتسبب في تكدسات جديدة، وجرى تجاهلهم كذلك.
يعتقد مراقبون أن تذمر البعض من سكان القاهرة من تطويرها، يعكس مواقف سلبية لدى الشارع تجاه الحكومة، حتى لو كانت تقوم بأعمال تطوير وتغيير إلى الأفضل، فهناك حالة من فقدان الثقة تجاه كل شيء حتى لو كان يخدم المصلحة العامة ويلبي مطالب الناس الذين تبدو عليهم عدم القدرة على تحمّل تنفيذ مشروع يخدمهم في المقام الأول ويذيل متاعبهم اليومية.
ويعكس امتعاض قطاعات من المواطنين، حتى من أعمال التطوير التي كانوا ينادون بها، إخفاق الحكومة في إدارة علاقتها بالشارع إلى درجة عدم قدرتها على إقناعه بأنها تعمل على راحته، وطالما أن الناس ما زالوا يتحدثون عن بناء المستشفيات والمدارس وتوسيع الطرقات والكباري، فالغضب من التنمية لن يزول.
اقرأ أيضا: