مشاهير المنصات يمسكون بالهراء

ثقافة الجدل السامة اليوم بدأت تسيطر على الفضاء الإلكتروني لتصبح تقليدا في البرامج الحوارية التلفزيونية، ومنطقا يعول عليه الكثير من السياسيين الفاشلين.
الاثنين 2024/10/21
أينشتاين يسخر من مشاهير المنصات

عندما سألت الزميلة رولا خلف رئيسة تحرير صحيفة “فايننشيال تايمز” الثري إيلون ماسك، بعد أن أستحوذ على “تويتر” آنذاك. لماذا ينخرط رجل جاد مثلك لديه أفكار جادة في ألعاب تويتر السخيفة التي قد تكلف متابعيه ثمنا غاليا؟ كانت تريد في هذا السؤال أن تقول لماذا أنت مثير للجدل إلى تلك الدرجة؟، أما رد ماسك فكاد أن يكون تعريفا مفيدا لمعنى أن يكون الإنسان مثيرا للجدل الضار! بقوله “ألست مستمتعة في أن ألعب دور الأحمق على تويتر وأصعّب الأمور على نفسي وأتسبب في كل أنواع المتاعب؟” فهل الأحمق هو معادل موضوعي لشخصية المثير للجدل؟

قد يظهر لنا ماسك السخافة المطلقة للثروة الفاحشة عندما يريد حكم الأرض والسماء والتأثير على مزاج الناس. عندها لا يمكن الاستغراب عندما يقوم مشعلو حرائق الحروب الثقافية والطائفية بتمثيل دور رجال الإطفاء، وهنا سنجد تعريفات مفيدة عن إثارة الجدل عندما يتعلق الأمر بماسك حتى نصل إلى خامنئي في بداية قائمة طويلة.

لكن ماذا لو عاد أينشتاين للدخول في جدل العصر الرقمي الذي قال ذات مرة “إن البحث عن الحقيقة والمعرفة من أفضل صفات الإنسان”. وعاد أيضا للحياة علي الوردي الذي قال “إن العقل يقتبس من الحقيقة الخارجية جزءا ثم يضيف إليها من عنده جزءا آخر ليكمل بذلك صورة الحقيقة كما يتخيلها. وهذا هو الذي جعل كل فرد منا يحمل معه حقيقته الخاصة كما يحمل حقيبته”.

ومع تعلق الأمر بما يسمى “بناء العلامة التجارية الشخصية” على المنصات، تحوّلت إثارة الجدل إلى شخوص مشاهير على مواقع التواصل، مع أنهم لا يصنعون مُثلا وأفكارا وقيما ولا تحركهم معايير إنسانية ومعرفية تجعل المجتمعات تنظر إليهم بنوع من الاهتمام المفيد، ومعهم أضحت إثارة الجدل بشأن تأثير هؤلاء على صناعة الرأي العام أكثر ما يثير الجدل نفسه، عندما صارت تحتفي بهم الحكومات وتدفع لهم أموالا لسحق الصحافة المستقلة، ولسوء حظ التاريخ الرقمي الذي يراد كتابته بالهراء.

مع ذلك يبقى هؤلاء “الناس” موضع إثارة للاهتمام، وعندما أقول مثيرين للاهتمام، أعني ذلك بالطريقة التي يكون فيها ترويج الهراء سببا للاستحواذ على العقول.

أتوقع من جميع قراء هذا المقال لديهم قائمة مفتوحة من هؤلاء، يدافعون فيها نيابة عني، حتى وصل الوحل إلى كرة القدم وجمهورها بعد تشويه علاقات المجتمع مع نفسه بذريعة الدفاع عن حريات الكفر والإلحاد والتعصب والأعراق والألوان والطوائف والبلدان، ومن يتسيّدون ذلك تتفق الثقافة السائدة اليوم على تسميتهم بنشطاء ومشاهير منصات إثارة الجدل، لكن عن أي جدل نافع نتحدث؟

بدت لي مفيدة، العودة إلى كتاب الفيلسوف الأميركي هاري فرانكفورت عندما نشر منتصف ثمانينيات القرن الماضي مقاله الشهير “فيما يتعلق بالهراء” من دون أن يتوقع أن الهراء “سينتج” آنذاك نماذج فاعلة في الفضاء الرقمي صدرت لاحقا ترجمة عربية بعنوان “في الهراء والتهريج”.

كانت الفكرة البارعة لفرانكفورت الذي عاش العصر الرقمي وكان يجدر به تقديم نسخة مطورة من كتابه “رحل في أغسطس 2023” هي أن الهراء يكمن خارج نطاق الحقيقة والأكاذيب. فالكاذب يهتم بالحقيقة ويرغب في طمسها. ومن يتفوه بالهراء لا يبالي بما إذا كانت أقواله صحيحة، “فهو يختارها فقط، أو يصنعها، بما يتناسب مع غرضه”.

كان أرسطو يرفع من قيمة الجدل بوصفه وسيلة للتدريب على التفكير، بيد أن ثقافة الجدل السامة اليوم بدأت تسيطر على الفضاء الإلكتروني لتصبح تقليدا في البرامج الحوارية التلفزيونية، ومنطقا يعول عليه الكثير من السياسيين الفاشلين، حتى بتنا نسير في طريق أعمى إلى الهراء الذي أمسك به في يوم ما هاري فرانكفورت!

18