مسلسل "عمر أفندي".. السعادة في الاتساق مع الذات بالرجوع إلى الماضي

جاء مسلسل "عمر أفندي" معتمدا على كوميديا الموقف التي منحته نسبة متابعة كبيرة خاصة وأن أحداثه ترتكز على الفانتازيا من خلال حكاية شاب يسافر عبر الزمن نحو الماضي، مقيما علاقات متنوعة بين الماضي والحاضر ومتقمصا شخصيتين مختلفتين تمكنانه من تسليط الضوء على نماذج من المجتمع، لكل منها هويته وسلوكياته وطموحاته.
القاهرة- الكوميديا ليست لهوا، والتسلية ليست إلهاء، فالترفيه هدف أساسي للفن، وتزداد أهميته في أوقات الأزمات، المهم هو عدم الابتذال، أو السقوط في فخ السخافة والتكرار، فإذا ما جاءت الكوميديا إطارا يحيط بفكرة جاذبة مشوقة تجد جماهير المشاهدين يتفاعلون بإيجابية مع العمل الفني، وهذا ما جرى مع مسلسل “عمر أفندي”.
اهتم المصريون بالمسلسل مع بدء عرض حلقاته على قناة “أون” ومنصة “شاهد”، وصار ضمن قائمة الـ”تريند” على مواقع التواصل الاجتماعي، والأعلى مشاهدة على المنصة، وتابعت مواقع إلكترونية مواعيد عرض الحلقات وأحداثها.
تدور أحداث المسلسل في إطار فانتازي كوميدي، حول البطل علي المتزوج من فتاة تفوقه في المستوى المادي، ويعمل معها في الشركة العقارية الكبرى التي يملكها والدها، لكنه يبدو مختلفا عن هذا العالم، لا يربطه بتفاصيله سوى ابنته التي يحبها.
مسلسل “عمر أفندي”، بطولة أحمد حاتم وآية سماحة ورانيا يوسف ومحمود حافظ ومصطفى أبوسريع ومحمد رضوان وأحمد سلطان وميران عبدالوارث وإسماعيل فرغلي، ويحضر محمد عبدالعظيم وميمي جمال كضيفي شرف. والعمل من تأليف مصطفى حمدي، وإخراج عبدالرحمن أبوغزالة، وإنتاج إيهاب منير.
ملامح البطل المقبلة
علي رسام في الأصل مثل والده، الذي عارض زواج ابنه من الفتاة الثرية لأنه لا يشبهها ولا تشبهه، متوقعا أن يكون مستقبلا مجرد “زوج الست”، لا احترام أو مكانة له، لكن الابن يصر وتبدأ القطيعة بينهما، بعد مشهد حواري جمعهما ظهرت في خلفيته لوحة يرسمها الأب لطائر حبيس في قفص.
تعكس اللوحة ملامح حياة البطل المقبلة، وشيئا فشيئا ترتسم كلمات أبيه لتصير خطى في حياته، فهو لا يجد نفسه في حياة زوجته، ويعجز عن فعل الأشياء التي يحبها، بما فيها الرسم نفسه، وحتى طريقة لعبه مع ابنته تتأفف منها الزوجة النافرة المتعالية، والتي لعبت دورها ميران عبدالوارث.
وفجأة، يموت والد البطل، الذي لعب دوره الفنان محسن صبري كضيف شرف، لتبدأ حياة علي في التغير، يُصدم ويندم، ويبدو كمن يريد إعادة اكتشاف والده وحياته بعد رحيله.
ويعثر البطل على سرداب خفي في بيت أبيه، يسير فيه ليجد نفسه قد وصل إلى عالم غريب، سرعان ما يكتشف أنه مصر، لكن في زمن ماض، تحديدا في عام 1943.
تبدأ رحلة غريبة في حياة علي، يحاول أن يعثر لها على تفسير بعد عودته إلى الزمن الحالي، فيبحث على الإنترنت ليجد أن نظرية النسبية لأينشتاين تشير إلى إمكانية الانتقال عبر الزمن إلى المستقبل، بالنسبة للأجسام التي تتحرك بنفس سرعة الضوء، لكن لا يوجد جسم ذو كتلة يمكن أن يتحرك بهذه السرعة.
وهنا يقول السيناريو، مبررا بدء الرحلة التي تندرج في إطار الفانتازيا أو الخيال العالمي، إن هناك أشياء كثيرة في العلم لم نتوصل إليها بعد، وبالتالي فمن الوارد أن تظهر في المستقبل نظرية علمية تتيح السفر عبر الزمن، إلى المستقبل أو الماضي.
عدد كبير من المفارقات يواجه علي في الزمن الماضي، أولاها أنه يعثر على صورة والده الراحل معلقة في بهو الاستقبال في “بنسيون دلال”، ليكتشف أنه متزوج من الراقصة المعتزلة دلال، الممثلة رانيا يوسف، والدة الفنانة الاستعراضية الشابة زينات، الممثلة آية سماحة، وأن الأم وابنتها ينتظران عودته، لطيبته ونخوته، ولا تعلمان أصلا بموته.
يحاول علي أن يفهم ما يجري، لكن حتى دون فهم أو تفسير لا يستطيع مقاومة العودة إلى الزمن الماضي، وعندما يُسأل عن اسمه تقع عينه على لافتة محل “عمر أفندي”، فيرد سريعا عمر، ويخاطبه الجميع عندئذ بتعبير ذلك الزمان “عمر أفندي”.
شيئا فشيئا ينخرط علي أو عمر أفندي في مشاكل زينات ويحاول الدفاع عنها، فيقترب منها ويشعر بالارتياح لها، رغم “طول لسانها” في بداية تعارفهما، ويبدأ في تفصيل ملابس مناسبة للزمن الماضي حتى لا يبدو غريبا عمن يقابلهم من أشخاص صاروا قريبين منه، رغم أنه يفصله عنهم سبعون عاما من الزمن.
جاءت الديكورات معبرة عن مصر في الأربعينات، بإشراف أحمد جمال عبدالعزيز، سواء في بنسيون دلال أو التياترو الذي تعمل فيه زينات، لتقدم صورة جميلة يشعر معها المصريون بالحنين إلى عصر كان له نكهة وطعم. وساهمت ملابس الشخصيات التي صممتها داليا ممتاز في الإقناع بصورة مصر في ذلك العصر.
كما لعبت الموسيقى التصويرية لمحمد أبوذكري بنجاح على أوتار التنقل بين الحاضر والماضي، لتعكس أجواء من الغموض لكن في إطار كوميدي، في ظل المفارقات الكثيرة التي تواجه البطل في رحلته اليومية بين الزمنين.
ونجح سيناريو مصطفى حمدي في التعبير عن هذه المفارقات، على عدة مستويات، منها اختلاف التعبيرات المستخدمة في الكلام بين العصرين، وشعور الاستغراب المتبادل بين علي والشخصيات التي يلتقيها بسبب الطباع والملابس والسلوكيات.
قاعدة صلبة للكوميديا
على مستوى الأداء التمثيلي، أظهر أحمد حاتم إمكانات كوميدية كبيرة، تتيحها ملامحه التي تبدو جادة، فيسهل تفجر الكوميديا من خلالها عندما تتعرض الشخصية التي يؤديها لمواقف مفاجئة.
وبسلاسة كبيرة، أدت آية سماحة دور زينات، بملامح هادئة وابتسامة مبهجة، دون افتعال، ما برر تعلق البطل بها لأنها بدت ببساطة إنسانة طبيعية، ليست كزوجته التي حصرت نفسها داخل إطار متصلب، أما زينات فهي تحب وتسب، تضحك وتقطب، تهدأ وتنفعل، كأي إنسان طبيعي.
وقدم الممثلون الذين قاموا بأدوار الشخصيات في زمن الأربعينات من القرن الماضي جرعات كبيرة من الضحك، مثلت قاعدة صلبة قامت عليها الكوميديا، ما أسهم في نجاح المسلسل.
شارك مصطفى أبوسريع في دور دياسطي ساعي البريد البسيط، الذي يحلم بالانتماء إلى منظمة فدائية للعمل ضد الإنجليز، ويضع صورته ضمن صور كبار الزعماء كسعد زغلول ومصطفى النحاس، بحثا عن دور في الحياة، وهربا من اتهام لاحقه في الصغر بأنه “عبيط”.
أما محمود حافظ، فيلعب دور صاحب التياترو الشرير الذي يريد استغلال زينات وأمها. ويجسد محمد رضوان دور اليهودي شلهوب، الخائف دوما دون مبرر من إمكانية دخول الألمان، والمقبل على النساء رغم ضعفه الشديد.
والممثل الشاب أحمد سلطان لعب دورا كوميديا جيدا كصديق للبطل في الزمن الحاضر، لكن توظيفه في الزمن الماضي كان سيمنحه مساحة أكبر لإظهار قدراته، ودفع الكوميديا في المسلسل إلى الأمام.
أما الفنان محمد عبدالعظيم، فلا يكاد يخلو عمل يشارك فيه من بصمة يتركها أو جملة حوار يتم تداولها، بدءًا من شخصية سامح النصاب في مسلسل “بـ100 وش” عام 2020، وجملته “أنا يا بنتي؟.. شكرا على ثقتك الغالية”، وعبارة “جمبري مزارع” في مسلسل “تحت الوصاية” في 2023.
وقام في مسلسل “عمر أفندي” بدور لمعي القواد، وهي نفس الشخصية التي أداها في مسلسل “سجن النسا” عام 2014، لكنه منحها بعدا كوميديا لطيفا كالعادة، ما دفع البعض إلى وصفه بـ”فاكهة” أي مسلسل يشارك فيه، وتم تداول جملة جديدة له من المسلسل، يهدد بها كل من لا يلتزم بأوامره قائلا “هتتزف زفة الإنجليزي في العشة”.
ويبدو أن عبدالعظيم، عندما شاهد المسلسل بعد بدء عرضه، لم يسعد ببعض جمل الحوار التي وردت على لسان شخصيات في مشاهد لم يشارك فيها، وصفت لمعي القواد بوصف مسيء غير لائق، (النجاسة)، فكتب على صفحته في موقع فيسبوك ملمحا إلى عدم رضاه عن ذلك باعتبار أن اسم الشخصية في السيناريو المكتوب هو “لمعي اللامع”، وليس الوصف الآخر، لما فيه من فجاجة ومباشرة، لكنه عاد وحذف منشوره، وكتب آخر قال فيه “يا رب ابعد عنا أراذل الخلق والمتربصين وأصحاب القلوب المريضة”.
ولا يزال المسلسل يحقق نجاحا كبيرا متصاعدا مع توالي عرض حلقاته، ما ظهر بعد الحلقة السادسة التي أدى فيها أحمد حاتم مع آية سماحة ومصطفى أبوسريع أغنية “لولاش” الشبابية التي ترجع إلى التسعينات، للفنان حسام حسني، باعتبار أنها كانت تقدم في تياترو في زمن الأربعينات، ما أحدث مفارقات كوميدية كبيرة.
وكتب حاتم بعدها على موقع إنستغرام ليعلن ساخرا أنه مستعد لإحياء الأفراح مجانا، موضحا أن “الحجز مع دياسطي وزينات”، ووجه شكرا خاصا للفنان حسام حسني.
أحب المشاهد مسلسل “عمر أفندي” وتابعه، لما فيه من تعزيز مشاعر النوستالجيا والحنين إلى زمن مضى، وسط جرعات من الضحك، دون دموع أو أسى، وهو ما يحتاجه المصريون حاليا وسط ضغوط الواقع وحصار الأزمات.
الموسيقى التصويرية لمحمد أبوذكري لعبت بنجاح على أوتار التنقل بين الحاضر والماضي، لتعكس أجواء من الغموض
ويبقى أن الكوميديا في المسلسل لم تأت هزلا فارغا من المعنى، بل هناك من المعاني ما يمكن أن يظهر ويبقى، من خلال مفارقات الضحك.
فالبطل علي المتجه من الزمن الحاضر إلى الماضي يحاول طمأنة قلق دياسطي، مؤكدا له أن الإنجليز سيخرجون من مصر، ويستغرب دياسطي بشدة ولا يفهم كيف عرف صاحبه.
والحقيقة أن الإنسان دوما هكذا، غارق في القلق، يحاصر ذاته في لحظته الحاضرة، ناسيا أنه نقطة في بحر، وأن التاريخ يمضي رغم كل شيء، وأن سُنة الحياة هي التغير.
فالمهم أن يحيا الإنسان بتوازن كي يستمر، بأمل وعمل معا، دون انتظار ثمرة جهده في حياته، إذ ليس بالضرورة أن يلقى نتيجة، أما الضروري حقا فهو أن يتسق المرء مع ذاته، وأن يكون نفسه كي لا يضطر إلى مغادرة الحاضر، مثل علي، ورجوعه إلى الماضي ليصبح عمر أفندي، بحثا عن راحة روحه وسعادته.