مسلسل "دواعي السفر" يُشهر سلاح المحبة في مواجهة الوحدة

لو نظرت في قصص الناس من حولك لاكتشفت أن الحب كان سلاحا مهما أنقذ الكثيرين منهم من الاستسلام وساعدهم على مواجهة صراعاتهم النفسية والحياتية. هذا ما يناقشه مسلسل "دواعي السفر" الذي أبدى الممثلون فيه قدرة على جذب المشاهد وإقناعه بنص كتبه محمد ناير الذي يخوض أول تجاربه الإخراجية.
القاهرة - مثلما لا يستطيع أحد أن يمرر عملا فنيا موجها أو فاشلا إلى قلوب الجماهير، مهما بُذل من جهد في الدعاية والترويج له، فلا أحد يمكنه أن يحول بين الإبداع الجاد الصادق والنجاح، فلدى المشاهد المتذوق دوما ميزان حساس يقيِّم بواسطته كل ما يشاهده بدقة، ويفرِّق بين العمل المبدَع لأجله وذلك المصنوع لتوجيهه.
وقد يتكرر النجاح أكثر من مرة، مع كل عرض جديد للعمل، وهذا ما حدث مع المسلسل المصري “دواعي السفر”، الذي عرضته منصة “واتش إت” المصرية في مايو الماضي، ثم عرضته بداية العام قناة “دي إم سي”، وفي المرتين انجذب المصريون إلى المسلسل واهتموا بمتابعته.
ويتساءل القارئ هنا ممّن لم يشاهد المسلسل في المرتين عن السبب، وعمّا إذا كانت السطور السابقة تعني أن المسلسل جاء ناصعا تماما بلا خطأ.
تدور الإجابات كلها تحت عنوان عام، هو أن الصدق في محاولة السير الصعب في دروب النفس البشرية الوعرة لكشف أسرارها وإزالة غموضها، وتعبيد الطريق أمامها نحو السلام والسعادة، ولا يمكن أن يمر عليه المشاهد مرور الكرام، مهما اكتنف العمل من بعض النقاط التي تستدعي الملاحظات.
مسلسل “دواعي السفر”، من بطولة أمير عيد، ونادين، وكامل الباشا، وأحمد غزي، ودنيا وائل، وجلا هشام، ومريم ناعوم، وأيمن الشيوي، وسلمى الكاشف، ونادر جودة، وأحمد الألفي، وأحمد فاضل، وسمير حكيم، وآية حلمي، وياسمين سمير، وتأليف وإخراج محمد ناير، مع ظهور خاص للفنانين إسعاد يونس وأحمد حاتم كضيفي شرف.
اضطرابات النفس البشرية
◘ الكاتب محمد ناير أثبت قدرته على نقل أفكاره عبر الصورة برهافة باتجاهه إلى الإخراج للمرة الأولى
تدور أجواء المسلسل في عوالم اضطرابات النفس البشرية وأوجاعها، وتراكم الألم عبر السنين ليضع الإنسان أمام احتمالات عدة؛ المواجهة أو الكبت أو الكذب أو الإنكار وصولا إلى الانتحار.
تبدأ الأحداث بمحاولة البطل (أمير عيد) مخرج الإعلانات الناجح، الانتحار عبر تناول عقار، لكن مكالمة مفاجئة من أحد مندوبي التسويق العقاري تقطع عليه محاولته. يتفاعل مع المتصل مستمعا إلى عرضه، ويخبره بأن العرض جيد وأنه سيخبر ورثته لأنه كان على وشك الانتحار، فيظل المندوب يعدد مزايا العرض الإضافية، لتبدأ لمحة الكوميديا الظاهرة في المسلسل برغم الألم، فمن قال إن أكثر البشر اكتئابا بعيدون عن السخرية؟
يعود البطل لتنفيذ محاولته، لكنّ صوتا مفاجئا لارتطام عنيف في الشقة المجاورة يوقفه مرة أخرى فيقوم لاستطلاع الأمر، ويفاجأ بسقوط جاره المسن الذي جاءه عصرا للتهنئة بعيد ميلاده دون أن يعرفه فطرده، ويكتشف أن الرجل أصيب بذبحة صدرية.
يتحوّل مجرى الأحداث ويجد البطل نفسه مدفوعا بعقدة الذنب لتسببه في إيلام رجل مسن إلى محاولة إنقاذه بنقله سريعا إلى المستشفى. تتعطل مجددا خطة الانتحار المقرر في يوم عيد ميلاد البطل المكتئب، فهل يكون تأجيل الخطة أمرا مؤقتا أم أن اليوم ذاته كان يحمل في طياته ميلادا جديدا لصاحبه؟
ملابسات عديدة تكتنف حياة الرجلين معا، فيعيدان من خلال علاقتهما اكتشاف حياتيهما، وفهم الحياة ذاتها عبر تعديل المنظور إليها. ولا يقدم صناع العمل هذه الثيمة بشكل يجعلها تقليدية أو مكررة، إنما يناقش المسلسل عددا من الأفكار في صورة تساؤلات حائرة.
ويجري على مهل من خلال الدراما وخيوط الحكايات المتشابكة فحص الاحتمالات المختلفة لإجابات الأسئلة، سعيا لإزالة الالتباس، وتوضيح الرؤى أمام أصحاب النفوس الشفافة والقلوب الهشة، حائزي النوايا الحسنة التي قد تقودهم دون أن يشعروا إلى هلاكهم.
لسنا من هواة حرق الأحداث، عبر كشف مسارات الدراما والنهايات، لاسيما أن المسلسل ما زال متاحا على منصة “واتش إت” بعد انتهاء عرضه تليفزيونيا، ما يسمح بأن يشاهده كل من يحب، ليتذوقه ويستمتع به، لكننا هنا نتوقف أمام نقاط بعينها، عبر وضع خطوط وظلال على جمل مهمة من الحوار تكشف عن صراع الأفكار، صاغها بصنعة وعمق الكاتب والمخرج محمد ناير، وأبدعت كتيبة الفنانين في التعبير عنها وتقديمها.
“الناس كلها وحدانية (وحيدون) ومستنية (منتظرة) حد يكلّمها،” جملة حوارية تأتي على لسان القبطان إبراهيم الذي أبدع في أداء شخصيته بسلاسة وجمال الفنان الفلسطيني كامل الباشا.
ويسعى الأبطال إلى تأسيس “نادي الوحدة” ليكلم فيه الناس بعضهم البعض، ويتعارفوا، ويشعروا بأنهم مهمون لدى أشخاص آخرين في هذه الدنيا، ويأتي الشعار المكتوب في الإعلان عن النادي: “الوحدة مش (ليست) عيب.. العيب إنك تفضل (تظل) لوحدك.”
لكن الهروب إلى الوحدة قد يكون بدافع إنساني، من وجهة نظر صاحبه، الذي قد يقرّر إبعاد أبنائه عنه كي يتابعوا طريقهم في الحياة وينجحوا دون أن يكونوا جواره في لحظات مرضه الخطير حتى الموت فيتعذبوا.
تبدو الفكرة مخلصة، لكن السيناريو يناقشها ويرد عليها بمنظور آخر، وهو أنها يمكن أن تكون فكرة أنانية، لأنها تنطوي على توجيه حياة الأبناء ومنعهم من متعة أن يكونوا جوار آبائهم حتى آخر لحظة، يشاركونهم الحياة ويسعدون بهم ويمنحونهم في الوقت نفسه الأسباب التي تجعلهم يكملون ما تبقى من حياتهم.
جدل الأفكار
قد يكون المحيطون بنا سبب هروبنا منهم. ويجري التساؤل الغاضب على لسان إحدى الشخصيات المجروحة: لماذا نرى أنه من قبيل الحق المستباح أن نمنح مشاعرنا لأشخاص ونجعلهم يقتربون منا و”يتعشمون فينا”، ثم نعود لنبتعد عنهم في أكثر لحظات احتياجهم لنا، كأننا نقول لهم: “أنتم صدقتم الحب اللي بيننا؟ احنا كنا بنهزر (كنا نمزح معكم)؟”
وهذا صحيح أيضا، بلا شك، لكن جدل الأفكار في المسلسل يقدم رؤية جديدة حول المسألة، وهي أن الحل في التعامل مع الأشخاص الجارحين لا يكون بالهروب إلى الوحدة. لماذا؟ لأن ذلك منطق شخص يخشى أن يعيش. لكن الحل في الأمل في الحب، واستمرار البحث عنه حتى آخر لحظة في العمر، مع حسن الاختيار.
“إيه يعني إن الناس تسيبنا وتمشي؟” تتساءل الطبيبة النفسية هدى التي أدت دورها الفنانة نادين ببراعة. حقا إنه أمر مؤلم، بل شديد الإيلام، لكننا – كما تقول – إن ظللنا واقفين في أماكننا لتأكد الذين تركونا أنهم كانوا على حق في فعلهم، أما إن مشينا وتقدمنا سنمنحهم الفرصة على الأقل في الشك في صحة قرارهم بالرحيل.
العيب ليس في الناس كي نهرب إلى الوحدة، إنما العيب في اختياراتنا نحن، لكننا نكابر ونعاند لأننا نرفض الاعتراف بخطأ اختيارنا، وأننا قد خُدعنا، “اتضحك علينا.” فكرة أخرى مهمة يطرحها السيناريو المفعم بالأفكار والأسئلة.
◘ العيب ليس في الناس كي نهرب إلى الوحدة، إنما العيب في اختياراتنا نحن، لكننا نكابر ونعاند لأننا نرفض الاعتراف بخطأ اختيارنا
ويتوازى مع الفكرة، دون تناقض، أهمية أن يعترف الإنسان إثر رحيل الحبيب عنه بأنه موجوع، غضبان، فليس عاديا أن يخسر المرء أحدا يحبه، بالموت أو الهجر، دون أن يحزن عليه.
الإنكار لا يجدي، والكبت لا يفيد، والحياة بمخزون من الغل كرد فعل على ما حدث ليست حياة، إنما لا بد من السير قدما إلى الأمام، سعيا نحو الحب، مع تصحيح الأفكار، ودون التفات إلى الوراء.
اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يواجه مشاكله هو اليوم الذي سيتعرف فيه على حقيقة نفسه، دون السقوط في فخ تعليق المسؤولية في رقاب الغير، حتى إن ظلموا أو لم يتفهّموا، وحتى إن كانوا من أقرب الناس كالآباء والأمهات، فهذا هو “مرض الفشلة”، والإنسان مسؤول عن تعديل مساراته لتحقيق النجاح في حياته، مهما يكن ما تعرض له في الماضي. فكرة أخرى يقدمها السيناريو المفعم بالتساؤلات والأفكار.
أبدع الفنان أمير عيد في أداء شخصية البطل علي مخرج الإعلانات الذي يعاني الاكتئاب، وإن تشابهت مع شخصيات سابقة لعبها، لكن أداءه يتطور بوضوح، ويبدو أنه لا يُقدم على تمثيل عمل لا يحبه أو ليس فيه جزء منه، ولهذا تأتي أدواره طبيعية وصادقة، ومطعّمة بلمسة كوميدية واضحة.
وحسنا فعل الكاتب محمد ناير باتجاهه إلى الإخراج للمرة الأولى، فقد أثبت قدرته على نقل أفكاره عبر الصورة برهافة، بكل ما يحمله الكادر التلفزيوني من عناصر. وبخلاف الدقة في رسم الشخصيات، كشفت مشاهد عديدة من خلال زوايا التصوير والإضاءة والعناية بالتفاصيل عن مخرج كبير يُنتظر منه الكثير.
مراوحة فكرة الانتحار في ذهن البطل بعد كل ما اعترى حياته من مستجدات، تم التعبير عنها من خلال تأمله من آن إلى آخر علبة الدواء التي كان قد أعدها لهذا الغرض. كما عبّر صنبور المياه دائم التنقيط عن طنين الأفكار المؤلمة في رأس البطل، والتي تحتاج إلى معالجة كما يحتاج الصنبور إلى إصلاح.
أمام قبر الأب
كان من أجمل المشاهد في المسلسل تلك التي وقف فيها البطل أمام قبر والده، يحدثه عن يوميات حياته كأنه لم يرحل، بل يحضر له كوبا من القهوة ليتناولها معه، تعبيرا عن الإنكار، وهو ما صوّرته الكاميرا في بعض المشاهد من الخلفية، ليبدو ظهر البطل مواجها العالم الذي لا يراه ويريد مغادرته بالانتحار ليذهب إلى والده.
ومع بدء التعافي والانخراط في الحياة، يبدأ التدرج في التعامل مع القبر، بعدم إحضار كوب القهوة لوالده الراحل، ثم الجلوس أمام القبر بشكل جانبي، فالبطل بدأ الالتفات شيئا فشيئا إلى العالم، إلى الدنيا التي ما زال يسكنها.
وعبَّرت السمكة الوحيدة الحبيسة في حوض الأسماك عن البطل نفسه وحياته، بالرغم من أننا قد نختلف مع السيناريو في أن العناية بحوض للأسماك في البيت لا يتماشى مع نفسية شخص قرر الإقدام على الانتحار.
◘ انتقادات ظهرت لتناول المسلسل طبيعة تعامل الطبيب النفسي مع مرضاه، ومخالفة الطبيبة هدى القواعد الثابتة في هذا الإطار
كما قد نختلف مع اختيار السيناريو لأن تكون نقطة تفجر الصراع بين الأب وابنه هو قيام الأخير بشراء سيارة حديثة، تعبيرا عن انخراطه في حياة استهلاكية مرفهة لإثبات نجاحه، فكان يمكن أن تصبح ذروة الخلاف بينهما أكثر قوة، كأن يقوم الابن بإخراج إعلان عن سلعة تافهة أو يحتوي على إسفاف، فيغضب الأب عندئذ لأنه كان يحلم بأن يحكي ابنه قصصا بالكاميرا كما قال له.
وظهرت انتقادات أيضا لتناول المسلسل طبيعة تعامل الطبيب النفسي مع مرضاه، ومخالفة الطبيبة هدى القواعد الثابتة في هذا الإطار، كإفشاء أسرار المرضى لبعضهم البعض، وإقامة علاقات صداقة معهم، لكننا إزاء جدية وصدق العمل يمكننا أن نبرر بأن الطبيبة نفسها كانت تشكو الوحدة، وفي كل الأحوال فليس هناك عمل بشري يمكن أن يدرك الكمال.
جاء مسلسل “دواعي السفر” عملا فنيا راقيا، رقيقا، شفيفا، ناقش شعور الإنسان بالوحدة، وهو إن كان قد ابتكر فكرة إنشاء “نادي الوحدة” كي يتحدث الناس مع بعضهم البعض، فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التأمل، وإعادة تأويل معنى الكلمة، لتكون الوحدة بمعنى الاتحاد هي الحل لمواجهة الوحدة في الحياة.
وهو ما عبر عنه البطل بكلماته عندما قال إن ما تفعله بنا الحياة هو أنها تجعلنا “نلف” (ندور) في دوائر كثيرة، حتى نلتقي بمن نشعر بالاحتياج له، لأننا مهما ادعينا بأننا نستطيع أن نعيش الحياة وحدنا فلا أحد يقدر على مواجهة الحياة بمفرده، أو ربما كما عبرت أغنية الختام الرائعة التي أداها أمير عيد مع دنيا وائل وجلاليو، وعنوانها: “أروح لفين؟”.