مسرحيون قطريون يكشفون ماضي مسرحهم وحاضره

عرف الخليج العربي حركية مسرحية منذ عقود، وخاصة ما بعد السبعينات وانتشار الحراك الثقافي بالتوازي مع الحركية الاقتصادية، لكن البدايات المسرحية في منطقة الخليج لم تكن سهلة، ولم يتخلص المسرح من الأفكار المسبقة وسمة الترفيه إلا بعد جهد طويل، بينما تحرر أيضا من نمطية ارتباطه بالتراث وصار يتجه إلى التجريب أكثر كتابة وإنجازا واقتباسا عن نصوص عالمية، إلا في وقت لاحق. ولعل المسرح القطري مثال على ذلك.
كيف تمكن استعادة بدايات المسرح القطري اليوم؟ ما أبرز المحطات المضيئة في مساره خلال الخمسين سنة الماضية؟ ما الدور الذي لعبته المؤسسات الخاصة والعامة في دفع مسيرته؟ كيف يمضي الآن؟ وهل هناك تواصل بين ماضيه وحاضره؟ هذه التساؤلات وغيرها كانت محاور الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان الشارقة للمسرح الخليجي وأدارها تيسير عبدالله، وشارك فيها ممثلون ومخرجون وكتاب مسرح قطريون.
بداية أكد الإعلامي والناقد المسرحي حسن رشيد أن طريق المسرح مع بداية ظهوره في قطر كما نراه الآن، لم يكن مفروشا بالورود، فقد كان في بداياته غريبا أو منبوذا اجتماعيا، كانت البدايات اجتهادات شخصية وأيضا بدعم شخصي من الفنانين أنفسهم، ولم تتوفر له سبل الرعاية والدعم أو حتى الانتشار، ومع إصرار الفنانين القدامى، وتشبثهم بأن يكون لهم وجود ثقافي فني واجتماعي، وكان يراه البعض إصلاحيا وتوثيقيا، خصوصا بعد المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي ظهرت في تلك الفترة في المنطقة.
البدايات والتأسيس
قال حسن رشيد “في البدايات لم تكن هناك صورة حقيقية لمستقبل المسرح، ولم يكن هناك هاجس حقيقي في تأثير المسرح كفعل ثقافي، كان مجرد نشاط جديد محفز ومبهر، تبنيناه كأحد مفردات التغيرات التي طرأت على المجتمع، ومن خلال مجموعات منفصلة، كل مجموعة كانت تعمل في مسار منفرد ومنعزل عن الأخرى، وكل مجموعة لا تعرف عن الأخرى، البعض كان يمارس هذا النشاط عبر نادي الجزيرة والطليعة والفرق الموسيقية، الموجودة في تلك الفترة، والبعض كان يمارسه من خلال المدرسة أو الكشافة، وآخرون في الفريج، ما يجمع كل مجموعة، هو الصداقات والحيز الجغرافي أو المدرسة أو الانتماء للنادي أو الكشافة”.
وأضاف رشيد “كان من أبرز هؤلاء الأوائل الذين ساهموا، في تفعيل الحركة المسرحية العشوائية، عطية الله النعيمي، إبراهيم فيروز السليطي، وموسى عبدالرحمن، وفي اتجاه آخر، كانت توجد هناك فرق موسيقية كالأضواء التي تبنت النشاط الموسيقي والتمثيلي الذي كان ارتجاليا، وكان هناك مسرح أكثر تنظيما أو تفعيلا وفريق مسرحي يقدم أعمالا مسرحية من خلال دار المعلمين بقيادة محمد عبدالله الأنصاري، وكان يضم الفريق عددا من المسرحيين، منهم سيار الكواري، علي حسن، محمد سلطان الكواري، وآخرين”.
وتابع “أيضا كان في مدرسة الصناعة الثانوية فريق آخر يتألف من عبدالرحمن المناعي ومحمد بوجسوم، بالإضافة إلى فريق المعهد الديني. من خلال هذه الفرق التي توفّرت لها بيئة مناسبة في خلق مناخ مسرحي ثقافي، يتعدى فكرة الترفيه والتسلية، إلى فكرة المعرفة والثقافة، ظهر كيان مسرحي استطاع أن يثبت وجوده ويصنع اعترافا به. ومع اكتساب الثقافة والمعرفة في هذا المجال تم إحداث تغيير في الاتجاه الفكري في المجتمع، كما أن الكثير من أبناء المجتمع القطري انضموا للحراك المسرحي وساهموا في تأسيسه”.
ووضح المسرحي فالح فايز أنه “كان للدولة ودعمها من خلال وزارة الإعلام وإشهار الفرق المسرحية في بدايات السبعينات، كإثبات رسمي لولادة هذا المجال في قطر، فنشأت فرقة المسرح القطري في 1972 والتي تشكلت من فريق المسرح من طلبة دار المعلمين، ومن ثم خرجت من نادي السد ‘فرقة مسرح السد‘ عام 1973، لتصبح ثاني فرقة مسرحية رسميه، ويليها ‘فرقة الأضواء‘ عام 1975، كذلك أنشئت فرقة المسرح العربي عام 1976، والتي استمرت لمدة سنتين بانتظار الإشهار والاعتراف الرسمي، ثم أغلقت الفرقة لعدم الاعتراف بها كفرقة رسمية وتم دمج الفريق المنتمي لفرقة المسرح العربي مع فرقة الأضواء المسرحية”.
وتابع “من ثم جاءت الفرقة الشعبية للتمثيل في بداية الثمانينات والتي أسسها موسى عبدالرحمن، بطاقات شبابية جديدة، وهي تشكل اليوم الجيل المسرحي الثاني، حيث تأسست الفرقة الشعبية بمخرجات المسرح المدرسي الذي تأسس مع ظهور إدارة التربية المسرحية بوازرة التربية والتعليم، والمسرح الشبابي من خلال الأندية التابعة للمجلس الأعلى لرعاية الشباب آنذاك، كما أن الابتعاث الحكومي لرواد الحركة المسرحية، كان حجر الأساس في تطوير المسرح المحلي، ليصبح حراكًا ثقافيا مهما ومؤثرا في المجتمع، بل ومسيطرًا على المجال الفني، تحقق مع وجود الكادر المسرحي القطري المؤهل أكاديميا تأليفا وتمثيلا وإخراجا، وإلى الاحترافية في العمل المسرحي، وظهور أجيال مسرحية جديدة كان لها دور فاعل في توطيد علاقة المسرح بالمجتمع”.
ورأى فايز أن رعاية وزارتي الإعلام والتعليم بالإضافة إلى الشباب، ساهمت كثيرا في نهضة وتطوير الحركة المسرحية القطرية، حيث كان المسرح القطري مفعما بالحيوية والنشاط فترة السبعينات والثمانينات، وأوائل التسعينات، حينما كانت مقومات النجاح والتميز والدعم متواجدة، ترافقا مع ظواهر ثقافية مسرحية مثل احتفالية المسرح العالمي ومهرجان الدوحة المسرحي، والعمل طوال السنة للفرق الأربع، بالإضافة إلى الاهتمام بالمشاركات الخارجية في المهرجانات العربية والدولية، فحقق المسرح تواجدا قويا محليا وكانت هناك منافسة فعلية قوية بين الفرق الأربع ساهمت في تميز وتطوير الحركة المسرحية، بل وتحقيق ريادة خليجية وعربية للمسرح القطري.
وقال “في عام 1994، صدر قرار بدمج الفرق المسرحية الأربع لتصبح فرقتين مسرحيتين، وتشكلت فرقة قطر المسرحية، من المسرح القطري والفرقة الشعبية للتمثيل، بينما تشكلت فرقة الدوحة المسرحية من اندماج فرقة الأضواء ومسرح السد، ورغم ذلك ظل المسرح القطري مستمرا في عطاءه، وتقدمه وتميزه على المستوى المحلي والخليجي والعربي، كذلك تم إلغاء التربية المسرحية وصولا إلى الغاء النشاط المسرحي الشبابي في الأندية وإلغاء المركز الشبابي، اللذين كانا رافدا حقيقيا للمسرح القطري. في عام 2006 تم إنشاء فرقة جديدة باسم مسرح الخليج، والتي استمرت لمدة عام واحد وتم إلغاء الفرقة، وفي عام 2014، صدر قرار بإنشاء فرقتين جديدتين هما فرقة الوطن المسرحية، وفرقة مسرح الغد التي تم إلغاؤها في عام 2018 وإدماجها مع فرقة الوطن. والآن تتشكل الحركة المسرحية بوجود ثلاث فرق مسرحية هي فرقة قطر المسرحية، وفرقة الدوحة المسرحية، وفرقة مسرح الوطن”.
مواهب الشباب

توقف الكاتب والممثل والمخرج المسرحي أحمد مفتاح مع المسرح المدرسي والشبابي والجامعي في قطر راصدا ومتتبعا لبداياته وتطوراته وأبرز أسمائه التي شكلت علامات بارزة في مسيرته، وذلك انطلاقا من مسرح التربية المسرحية ودوره، حيث قال إنه “منذ وقت مبكر من تكوين المسرح المدرسي في مدراس قطر ظهر هنالك نشاط مسرحي فاعل، تدفعه إدارة متخصصه تحت مسمّى إدارة توجيه التربية المدرسية التي استطاعت استقطاب عدد كبير من المدرسين الأكاديميين المتخصصين في المسرح والذين عملوا جاهدين خلال مسيرتهم تلك على تكوين جيل من الطلبة مؤمن برسالة المسرح وأهميته. وقد عملت الإدارة على إقامة المهرجانات التي تنافست فيها مدراس جميع المراحل الدراسية، وتم اختيار الأعمال المسرحية المستلهمة من التراث العربي والقصص الإسلامي وكانت في جلها باللغة العربية الفصحى”.
وأضاف “بعد سنوات من هذا العطاء والتدفق تكون جيل من الطلبة، كانوا هم النواة الأولى لتشكيل كيانات مسرحية في الأندية الرياضية والمراكز الشبابية والذي عرف فيها بعد المسرح الشبابي وأصبح مثل السلسلة التي توصل إلى بعضها البعض والتي واصلت المشوار وأمدت الحركة المسرحية القطرية بالعديد من الأسماء في مجالات التمثيل والتأليف والإخراج”.
وأوضح مفتاح “ربما بسبب الرقعة الجغرافية المحدودة للدوحة وما جاورها من ضواح أخرى، وبسبب العدد المحدود نوعاً ما من العاملين في قطاع المسرح بشتى أنواعه، حدث هناك تشابه واقتراب للوجوه ما بين المسرح المدرسي والشبابي، يضاف إليهم أولئك الذين تخرجوا للتو من المعاهد المسرحية الخارجية وتحديداً في الكويت ومصر، عملوا على إيجاد قطاع آخر وهو المسرح الشبابي من خلال المجلس الأعلى لرعاية الشباب، وقدموا أعمالا مسرحية تحت مظلة هذا الكيان”.
وبيّن أنه من أبرز الأفكار التي صقلت مواهب هؤلاء الشباب وعملت على تقوية إبداعهم المسرحي لجوء القائمين على النشاط المسرحي في إقامة مهرجان مسرحي شامل، حيث تم طرح عدد كبير من النصوص ليختار هذا الفريق أو ذلك نصاً مسرحاً باللغة العربية الفصحى ونصاً اجتماعياً وغالبا ما يكون باللهجة المحلية، إضافة إلى اختيار قصيدة عربية ويتم تجسيدها على خشبة المسرح، وأخيراً يقدم النادي عرضاً أو استكشاً يدخل في إطار مسرح البانتومايم، واستمرت هذه التجربة لعدد سنوات قبل أن يتم عمل مهرجانات مسرحية يحق فيها للنادي تقديم مسرحية حرة الموضوع، دون تحديد أو تقييد معين.
مسرح التجاوز
تابع الكاتب والمخرج المسرحي طالب الدوس في مداخلته تفاصيل الكثير من الرؤى والأفكار التي واكبت تطور المسرح القطري حيث قال “تجاوز المسرح القطري عبر سنوات قصار الكثير من المراحل البنائية الأولى، كما تعدى فكريا وفنيا العديد من الأطر الجامدة مستفيدا من علاقة المثاقفة مع التجارب المسرحية العربية والأجنبية، حيث تشكلت ما بعد تأسيس الفرق، مرحلة أخرى، من مراحل التطور في النص المسرحي في المسرح القطري، بدأت مع ظهور النص المسرحي العالمي وتقديمه وتوظيفه في المسرح القطري عام 1977، حينما قام عبدالرحمن المناعي بإعداد مسرحية ‘الجريمة‘ لبريستلي، ثم جاءت مسرحية ‘البخيل‘ والتي قدمها حسن إبراهيم بنصها الأصلي”.
وواصل الدوس قوله “مع عودة بعض الدارسين للمسرح، ممن قدموا تجارب في الكتابة المسرحية مثل الدكتور حسن رشيد وحسن حسين وحمد الرميحي وغانم السليطي، كان هناك تناول آخر في كتابة النص المسرحي، بعيدا عن العمل الكلاسيكي أو التقليدي. فقدمت فرقة الأضواء المسرحية، عملا حمل عنوان “اللوحات الثلاث”، كتبه المرحوم حسن حسين، وهي أول تجربة رسمية مغايرة عن الإطار التقليدي للنص المسرحي، وقدمت ثلاث حكايات مختلفة أو فصول في مسرحية واحدة أو سهرة مسرحية واحدة. كذلك جاءت تجارب أخرى ومحاولات جديدة في إطار النص المسرحي، فقدمت الأضواء ضمن ورشة مسرحية، أول مسرحية ‘بانتومايم‘، والذي اعتبر شكلا جديدا في الطرح في مسار المسرح القطري”.
ورأى الدوس أن الدراسة الأكاديمية والمشاركات الخارجية، والورش المسرحية، والاطلاع على تجارب الآخرين، ساهمت في إيجاد مدارس أخرى في أنماط التأليف المسرحي وأشكال الكتابة للمسرح، أو توظيف أنواع أخرى من أشكال النص المسرحي في المسرح القطري، حيث قدمت فرقة السد أول تجربة مسرحية تنتمي لمسرح المونودراما، وهي مسرحية “يوميات مجنون” لغوغول.
بعد سنوات من العطاء لأفراد مولعين بالمسرح وبعد التكوين والتجريب تكوّن جيل صار النواة الأولى لكيانات مسرحية
كما اتخذ مفهوم التجريب والممارسة في مجال المسرح لدى كاتب النص معاني كثيرة، فتبنت التجربة الكتابية لبعض الرواد التيارات على تعدد أشكالها واتجاهاتها فقدم في هذا الإطار على مستوى التقنية الكتابية، حمد الرميحي، أعمالا عديدة في إطار التجريب والتغريب مثل “مظلوم ظلم مظلوم” و”قصة حب طبل وطار”، وكذلك ما قدمه الدكتور حسن رشيد “العشاء الأخير” و”الأسير” وصالح المناعي “مسافرون”، و”السيد كاف”.
وأكد أن هذه المرحلة من التجربة الكتابية للنص المسرحي، في توجه الكاتب المسرحي أدت إلى ديمومة البحث عن شكل أو أسلوب نص جديد يقدمه المسرح القطري، حيث انطلقت عملية البحث في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات إلى ابتكار أشكال تعبيرية وتجسيدية جديدة على خشبة المسرح؛ سواء من جانب النص المسرحي أو من جانب هيكلية العرض والتي شكلت مشاركة المخرج والتقنيات الحديثة والسينوغرافيا في تأليف النص المسرحي.
وذكر الدوس أنه قد ظهرت تجليات هذه المرحلة فيما قدمه المسرح القطري من مؤلفات لكتاب قطريين “موال الفرح والحزن” لحمد الرميحي إخراج الفرنسية آن توريس، أو مؤلفات عالمية “مرتجلة الما”، “الكمامة”، “الحادث والكائن في موت عايش بن ضاعن” من تأليف عبدالرحمن المناعي. إن وجود هذه التجارب والبحث عن مفاتيح إبداعية جديدة، في رأيه، لم تمنع استمرارية الأعمال التقليدية، لكن هذه التجارب التي تناولها الكثير من الكتاب المسرحيين في قطر، في إطار البحث عن شكل جديد والتمرد على النص التقليدي من خلال تفعيل نظرية الهدم والتأسيس فنيا، كان دور المؤلف يتراجع، أو يغيب كليا لينفرد المخرج بسيطرة كاملة، ويشكل نصا آخر أو شكلا جديدا للنص أو هجينا، أحيانا يقدم تضادا بين فكر الكاتب ورؤية الإخراج، وبالتالي يفتقد النص من خلال العرض المسرحي.
وقال الدوس “أدى ظهور كتّاب من الجيل الثاني تحمل أفكارهم مفهوم التجريب أو ملامح الحداثة، مثل أحمد مفتاح، الذي قدم بعض النصوص في هذا الشأن، مسرحية “الكراسي”، ومسرحية “نهاية ريال شجاع”، وقدم العديد من التجارب المسرحية في إطار المسرح الشبابي والجامعي ومن ثم مسرح المحترف، أيضا هناك بعض التجارب لفيصل رشيد، هذه التجارب الشبابية، شكلت في إيجاد أطر جديدة في مفهوم تطور النص المسرحي. في مجال المسرح الجماهيري كانت المسرحيات التي قدمها الفنان غانم السليطي مؤلفا، وعبدالرحيم الصديقي وتيسير عبدالله هي أقرب لرصد الظواهر والمتغيرات في البلاد، مثل في “بيتنا مرشح” التي تزامنت مع أول انتخابات بلدية في قطر، وكذلك قطري 60 في المية، وغيرها من الأعمال التي تناولت أبعادا اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وتعتبر بشكل ما أقرب إلى توثيق المتغيرات النهضوية”.
وخلص الدوس مؤكدا أن الرصيد المتراكم من التجارب النوعية في المسرح؛ على مستوى الكلمة/النص، والمعالجة المسرحية، خلقت مسرحا قطريا احترافيا ومنوعا، ناسب جميع الطبقات الاجتماعية ولامس أفكارها وتطلعاتها المتغيرة والنهضة الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية، وكان لها دور مهم في تنمية الإبداع والابتكار وإنتاج المعرفة الجديدة التي تواكب مختلف التحولات الطموحة التي تعيشها قطر.