مسرحية "مدرسة الطغاة" موضوع لم يتقادم بعد فما أشبه الليلة بالبارحة

الناس قد يتحولون في أي وقت إلى أداة طيعة في أيدي الطغاة.
الأربعاء 2022/10/26
الطغاة لا ينتهون بل تتوالد أفكارهم

تكشف لنا بعض الكتب والمسرحيات، مثل “مدرسة الطغاة” للروائي الألماني إيريش كستنر، أن مؤلفها قد يتعدى حدود الخوض في حاضره وأزماته، بل قد يستشرف المستقبل عن وعي منه أو عن غير وعي، فيقدم للقراء مادة ثقافية صالحة لكل زمان ومكان، ترصد دواخل النفس البشرية وكيفية تطويعها من قبل الدكتاتوريين والطغاة.

الطغاة لا يموتون، يذهب طاغية ليحل محله آخر ولو بعد حين، ونفس الأمر ينطبق على الحاشية أو البطانة صنّاعه وأشباهه الذين يدورون في فلكه دعما له وفلك من يأتون به من بعده، والتاريخ شاهد على ذلك عبر كتابات المؤرخين والكتاب والمبدعين والفنانين قديما وحديثا، وهذه المسرحية “مدرسة الطغاة” التي كتبها الروائي والمسرحي الألماني إيريش كستنر “1899 ـ 1974” تشكل واحدة من أعظم المسرحيات الكاشفة والمعبرة حتى الآن عن عالم الطغاة والمستبدين، كونها لم تكن من وحي خيال مؤلفها، بل هي استلهام إبداعي عايشه المؤلف.

المسرحية التي ترجمها وقدم لها سمير جريس تتجلى فيها لغة كستنر الساخرة اللاذعة، وكذلك الجمل القصيرة المشحونة بالإيحاءات، وقد حاول المترجم الحفاظ على ذلك حيث سعى لأن يجد في العربية نظيرا للأمثال والعبارات الاصطلاحية الواردة في المسرحية، مراعيا مقتضيات اللغة المسرحية من سهولة النطق والاقتراب من لغة الحديث والابتعاد عن المفردات المهجورة أو الصعبة النطق.

بوكس

يقول جريس في مقدمته للمسرحية الصادرة عن المركز القومي للترجمة إن “المسرحية استلهام لما عايشه كستنر أيام الحكم النازي في ألمانيا. فعندما استولى هتلر على الحكم عام 1933 استطاع خلال شهور قليلة أن يقلب النظام الديمقراطي الواهي في ألمانيا رأسا على عقب، وأن يحوله إلى دكتاتورية مطلقة؛ فصدرت القوانين الاستثنائية، وتعطلت الحياة النيابية تماما، وتم إخراس كل المعارضين وحرق كتبهم، ومنهم أعمال كستنر نفسه، بالوعد والوعيد استطاع هتلر أن يجتذب الناس إليه وأن يرهب معارضيه، ومن خلال الاصلاحات الاقتصادية التي أعقبت فترة الكساد العالمي والأزمة الاقتصادية عام 1929 استطاع أن يمنح الناس أملا في غد أفضل، فآمنوا به وصدقوه، ولم تلتفت الأغلبية إلى جرائمه، أو بالأحرى تغاضت عنها. وسرعان ما جر هتلر ألمانيا إلى حرب توسعية مجنونة، أتت على ألمانيا والعالم كله بالخراب والتدمير وموت الملايين”.

ويضيف “قبل هتلر كان كستنر عالما بارزا في الحياة الثقافية في ألمانيا، فهو صحافي مشهور وشاعر قدير وروائي بارع، وكاتب مسرحي لامع، تميّزت أعماله بالنزعة التنويرية المثالية، راح كستنر من خلال أشعاره وروايته الشهيرة ‘فابيان ـ قصة رجل أخلاقي’ ينعى غربة الإنسان الحديث وفقدانه لفرديته في عالم يتقدم تقنيا بسرعة هائلة، وربما بالسرعة نفسها، هكذا رأي، كان يتدهور وينهار أخلاقيا، ومن هنا سمي بـ ‘الكاتب الأخلاقي’. استشعر كستنر الخطر إزاء تنامي الاتجاهات النازية المتطرفة، وأخذ يحذر من نشوب حرب جديدة، ولكنه سرعان ما أجبر على الصمت التام بعد أن منع من الكتابة ومن النشر وألقي القبض عليه مرتين. ورغم رفضه مغادرة ألمانيا حتى عندما اندلعت الحرب، وعندما كان يسأل عن السبب كان يقول إنه لا يريد أن يترك أمه المسنة وحيدة، كما أنه يريد أن يكون شاهدا على جرائم النازية. التف كتنر على قرار منعه من النشر بالاتجاه إلى كتابة سيناريوهات الأفلام وروايات الأطفال التي أضحت من أشهر أعماله حتى اليوم. أما الرواية الكبيرة التي خطط لها عن جرائم النازية فلم تصدر أبدا. وبدلا من ذلك كتب مسرحيته ‘مدرسة الطغاة'”.

ويرى المترجم أن كستنر عالج في “مدرسة الطغاة” فكرة الطغيان في شكل هزلي تراجيدي، فقد عايش كيف تحول الناس إلى أداة طيعة، وإلى ماكينات في خدمة النظام النازي، وكيف حاولت الأغلبية مسايرة النظام حتى لا يصيبهم ضرر. من هنا نبتت فكرة المسرحية التي يسخر فيها من المستبدين والطغاة، ويفضح زيفهم وخواءهم. كما يسخر من المنتفعين والمتسلقين. ويتعمد كستنر أن يجعل أبطاله دمى متحركة يرمز إليها الإنسان المنحط فكريا وأخلاقيا؛ الإنسان الذي تخلى عن إنسانيته.

الطغاة في المسرحية تلاميذ فاشلون في مدرسة أنشأتها حاشية الحكم لتربية وإعداد “أشباه” الرئيس، وفي المدرسة يتعلم الأشباه كيف يقلدون الرئيس في المشية والمظهر والملبس، إلى أن تجيء اللحظة المناسبة فيحكم الشبيه دون أن يلاحظ أحد من الشعب المسلوب الإرادة أن الطاغية “الأصلي” قد انتقل إلى جهنم بغير رجعة.

◙ إيريش كستنر عالج فكرة الطغيان في شكل هزلي تراجيدي، وكيف تحول الناس إلى ماكينات في خدمة النازية
◙ إيريش كستنر عالج فكرة الطغيان في شكل هزلي تراجيدي، وكيف تحول الناس إلى ماكينات في خدمة النازية

ويشير جريس إلى أن الكاتب الألماني في هذه المسرحية يعيد صياغة التاريخ لينطبق للأسف الشديد على واقع كثير من بلدان العالم الثالث عموما، ورغم أن المسرحية كتبت من حوالي أكثر من نصف قرن، إلا أنها تبلغ درجة عالية من المعاصرة وكأنها كتبت بالأمس القريب، وكأنها تصف طاغية بعينه كما يقول كستنر في تقديمه للمسرحية.

وفي تصديره للمسرحية يقول كستنر “هذا الكتاب مسرحية، ومن الممكن أن يعتبرها الناس مجرد نص ساخر، ولكنها ليست نصا ساخرا، وإنما هي تظهر الإنسان الذي شوهت صورته حتى بات المسخ هو صورته الحقيقية. هل يمكن أن تكون لمثل هذه المسرحية أدوار مألوفة؟ كلا. حوار يظهر الفروق الدقيقة بين الأشخاص؟ كلا. تطور الشخصيات؟ كلا. صراعات درامية؟ كلا. الإنسان المنحط الراقص على قدميه الخلفيتين لا يسمح بمثل هذه الأشياء. العظمة والذنب، والمعاناة والتطهور، وهي من سمات المسرح الراقي؛ كل هذا مدفون في التراب. علينا أن ننعى ذلك، ولكن قبل النعي علينا أولا أن نلاحظه”.

ويتابع “هذا الكتاب مسرحية، وإذا أردتم دقة الوصف فهو مأساة هزلية. انقلاب فاضل يزيح دكتاتورية فاسدة من الطريق. ثم يقتلون المتمرد، وترسخ الدكتاتورية الجديدة أقدامها. لم يكن الانقلاب بالنسبة إليها إلا مطية، مثل حصان، أو بالأحرى حمار طروادة. وتسقط حكومتان وفق النموذج نفسه من الانقلابات. ولكن الوسائل تتطور. وحتى الحرب الأهلية تستخدم الآن أسلحة حديث. كان قائد الثورة إذا تحدث قديما إلى خمسة آلاف رجل، فقد كان يتحدث إلى خمسة آلاف رجل. أما إذا تحدث اليوم إلى عشرة ملايين، فهو إما يتحدث بالفعل إلى عشرة ملايين أو، إذا أدير زر صغير في كابينة الصوت، لا يتحدث إلى أي إنسان. لقد سقط منهزما دون أن يعرف. وهو يعتقد أنه حي، بينما هو ميت. لا بد لتقنية الانقلابات أن تأخذ في الحسبان انقلاب التقنية. وأخيرا هذا الكتاب مسرحية تتطلع إلى غاية والغاية أقدم من وقت كتابتي لها، والموضوع، للأسف الشديد، لم يتقادم بعد. فما أشبه الليلة بالبارحة”.

المسرحية جاءت في تسع لوحات، وهذا مقتطف من اللوحة الأولى:

قاعة في قصر تم تجديده، حفل استقبال رسمي، ميكروفونات وزهور وشعارات وأعلام. على كرسي يشبه العرش يجلس الرئيس مرتديا الزي الرسمي المزدان بالأوسمة والنياشين. للرئيس لحية وشارب. (ملحوظة مهمة: يجب تفادي تصور أي شبه في اللحية والشاب بين الرئيس وبين أي شخصية من شخصيات التاريخ المعاصر حتى لا يتشتت انتباه المشاهد) قرينة الرئيس وابنه يجلسان على مسافة مناسبة وفي المستوى نفسه. وهي: ممتلئة ومتقدمة في السن وجذابة، تجلس في وضع متكلف. وهو شاب مثقف وجاد تبدو عليه اللامبالاة. على أحد جانبي خشبة المسرح يقف رجال السلك الدبلوماسي مرتدين الزي الكامل، وفي مقدمتهم عميد الدبلوماسيين ومبعوث الفاتيكان. وعلى الجانب الآخر من المسرح يقف وزير الحربية بلا ساقين على كرسيه المتحرك والنياشين تغطي صدره. بجانبه يقف الطبيب الشخصي للرئيس والحاكم العسكري للمدينة مرتديا الزي الخاص بالاحتفالات الرسمية. الطبيب يميل للبدانة وتبدو عليه أمارات الطيبة. الحكمة العسكري بارد. بجانب الشرفة المفتوحة يقف المفتش ورئيس الديوان الجمهوري، وسيد الخدم، وخادم كل سيد. أمام الرئيس يقف وسط خشبة المسرح بالقرب من أحد الميكروفونات رئيس الوزراء ووزير الداخلية. يسمع صوته، وفي ما بعد صوت الرئيس أيضا، وهو يتلو خطابه مرتين؛ مرة عند الكلام مباشرة، والأخرى عبر الشرفة المفتوحة من خلال صدى صوت الميكروفونات في الميدان الكبير. رئيس الوزراء يتحدث مرتجلا:

رئيس الوزراء: (في نهاية خطابه) إن مجلس الوزراء ومجلس الشيوخ والشعب كله، أي جميعنا ما عدا واحدا، الكل يرجوه ويتوسل إليه، إلى الذي أعاد بناء دولتنا، نرجوه أن يتنازل ويقبل ممارسة مهام منصبه الصعبة مدى الحياة. إن هذه الرغبة التي أجمعنا عليها، باستثناء صوت واحد هو صوته هو، هذه الرغبة، كما تعلمون، ليست بحاجة إلى اقتراع أو إحصاء. إن صناديق الانتخاب لا تنتظر إلا صوتا واحدا، صوته هو، نحن نعلم جميعا أن المبايعة مدى الحياة، حتى وإن قصدناها شرفا لا يتكرر، فهي عبء يثقل الكاهل حتى القبر، ومسؤولية كبر لا يقدر على تحملها إنسان. فإذا رجوناه وتوسلنا إليه، فإننا نفعل ذلك إدراكا منا أن الشعب والدولة دونه كجسد بلا رأس ولا يدين، أيها الأخوة والأخوات، في عصر الاستبداد المطلق قال ملك عن نفسه إنه هو الدولة. كانت تلك أكذوبة في وجه التاريخ، تفضح تكبر الأمراء وصلفهم. ولكن هذه الجملة لن تكتسب معناها الحقيقي وقيمتها إلا إذا قلناها نحن المحكومين، لا الحاكم. انطلاقا من هذا المفهوم، فإننا نريد أن نعبر عن رجائنا كلنا بأن تسمح، سيادة الرئيس، بالتصديق على فقرة مبايعتكم مدى الحياة، وذلك من خلال هتافنا: الدولة دولتنا، هي أنتم يا سيادة الرئيس (ينحني انحناءة كبيرة، ثم يتجه إلى وزير الحربية الذي يشد على يديه).

المفتش: (يعطي إشارة من الشرفة للخارج).

الكورس: (الجماهير المحتشدة في الميدان الكبير تردد بحماس آلي مدروس) قل نعم ـ سيادة الرئيس. قل نعم ـ سيادة الرئيس. الدولة أنت. الدولة أنت.

الرئيس: (يسحب ببطء أوراق خطابه من جيب الصديري).

المفتش: (يعطي إشارة ثانية. أصوات الكورس تخف تدريجيا. في الخارج وداخل القاعة يسود صمت عميق).

الرئيس: (يتلو الخطاب جالسا أمام الميكروفون. فترة صمت بين الجمل. الصوت جهوري، واللهجة متفاخرة) أنا كما تعرفونني، لست رجل أقوال، بل رجل أفعال.العالم كله يعرف ذلك. ولست أنوي أن أغير أسلوبي الآن. وسوف يسجل التاريخ أننا أنجزنا الكثير في السنوات الماضية، ليس بالأقوال، وإنما من خلال اللغة التي يفهمها العالم كله. لغة الأفعال، وهذا ما جعل الأصدقاء يحترموننا، والأعداء يهابوننا. لم يعد ذلك أمرا بديهيا في هذا الزمان المقلوب. لا داخل الدول ولا بين الدول. نحن لم نوسع حدودنا، أيها السيدات والسادة، لكي نبرهن على قوتنا؛ فالقوة الحقيقية لا تحتاج إلى استعراض عضلات، وإنما قمنا بذلك حتى نعيد إلى أحضان الوطن أجزاء من أرضنا المقتطعة. إن بلادنا تنعم بالهدوء ووحدة الصف، هذا أمر لا يحتاج إلى ذكره بعد أن أقنعنا الشعب به. ولكن هناك قلة قليلة من المعارضين، قلة من محترفي الرفض، ومن الخونة المرتزقة العملاء. إنهم يقبعون في جحر الخوف. تكفي خطوة أو جملة ما بين الجحر والمصيدة. وليس هناك اختيار آخر. وقد أعذر من أنذر. لقد تم إنجاز نصف العمل ولكن علينا إنجازه كله. من سيفعل ذلك ومن يستطيع إنجاز ذلك؟ المسؤولية لا تتجزأ. ومن يشعر بالواجب لا ينتحل الأعذار. أمام هذا التكليف، وهذا الشرف، أن تحكموا عليّ بالرئاسة مدى الحياة، ليس هناك تراجع. أشكركم على هذا الحمل الثقيل الذي ألقيتم به على كاهلي اليوم وهنا. وأعلن قبولي المنصب والشرف والعبء.

المفتش: (يعطي إشارة نحو الخارج).

الكورس: (مرة أخرى في حماس آلي) يعيش الرئيس! يعيش الرئيس! الشكر لك يا رئيسنا، الشكر لك يا رئيسنا!

(المدافع تدوي من بعيد تحية للرئيس).

12