مسرحية "في العراء، أمام الباب" صرخة تعبر عن معاناة جيل يرى نفسه بريئا

هل ينجح الشاب العائد من الحرب مثخنا بالجراح وباحثا عن مكان ما في إعادة الاندماج في الحياة المدنية؟ إن تجربة الحرب تعيد تشكيل الروح والجسد، الأفكار والرؤى، تصرخ من أجل الحصول على إجابة: تسأل عن الله، عن الحب، عن معنى الحياة وهدفها. لا أحد يعود من الحرب كما كان سابقا. هذا ما تطرحه مسرحية "في العراء، أمام الباب".
في مسرحية “في العراء أمام الباب” كتب الكاتب الألماني فولفغانغ بورشرت مأساة جيله من الشباب الألماني الذي جُند في الجيش النازي، ثم زُج به في أتون الحرب التي أشعلها هتلر في كل أوروبا، ثم عاد مهزوما وجريحا إلى وطنه، ليجد حطاما في كل مكان، ولا يجد حتى مكانا يؤويه، فيظل “في العراء، أمام الباب”.
المسرحية التي ترجمها الكاتب سمير جريس، وصدرت أخيرا عن دار سرد، تعتبر الآن واحدة من أهم الأعمال الدرامية التي تكشف عن أوجاع الحرب وما يترتب على العائدين منها في مواجهة المجتمع. فكرتها بسيطة، خرجت كالرصاصة من قلب الشاعر العائد، لتصيب وترا حساسا لدى الملايين من الألمان، لاسيما الشباب الذين شاركوا في الحرب وعادوا ليجدوا مجتمعهم خربا. وتتجاوز كونها مجرد صرخة في وجه الحرب ومآلاتها لتشكل رؤية واعية ورصينة ضد هذه الحرب.
معاناة جيل
يقول جريس “عندما انتهت الحرب العالمية الثانية في مايو 1945، حاول بورشرت أن يبدأ حيثما توقف قبل الحرب، فانغمس في العمل بالمسارح، وأسس فرقة كوميدية، غير أن المرض أجبره على الرقاد في فراشه في شتاء 1945 – 1946. في تلك الفترة كان يكتب بسرعة محمومة. وخلال ثمانية أيام فحسب خطّ على فراشه مسرحيته الوحيدة ‘في العراء، أمام الباب’، وفيها يعود الجندي بكمان المصاب في ركبته، فيجد زوجته في أحضان رجل آخر، فيبحث عن شقة والديه، ويكتشف أن عائلة أخرى استولت عليها بعد أن انتحر الوالدان (ونعرف أنهما كانا يشيان باليهود ليتم ترحيلهما)، يحاول البحث عن عمل أو البدء بداية جديدة، لكن من دون جدوى، حتى عندما يلقي بنفسه في نهر الإلبه، يقذفه النهر إلى الضفة.”

يقول بورشرت في مطلع المسرحية “يعود رجل إلى ألمانيا. تغيَّب الرجل طويلا، طويلا جدًّا. ربما أطول من اللازم. يعود وقد تغير تمامًا عما كان عليه عندما رحل. ظاهريًّا يشبه بشدة ذلك الشكل الذي يقف في الحقول حتى يُفزع الطيور (ومساءً يُفزع الناس أيضًا أحيانًا). وباطنيًّا يشبهه أيضًا. لقد انتظر ألف يوم في العراء وفي البرد… هو واحد من هؤلاء الذين يعودون إلى البيت، لكنهم في الحقيقة لا يعودون إلى البيت، لأنه لم يعد هناك بيت لهم. أصبح بيتهم في العراء، أمام الباب.”
ويضيف “في أحد مشاهد المسرحية يذهب بِكمان، الجندي السابق في الجيش النازي، لمقابلة قائده العسكري، ويقول له إنه يريد أن يعيد إليه ‘المسؤولية’، مسؤوليته عن الجنود الذين أرسلوا في مهمة عسكرية فلاقوا حتفهم، إذ إن بِكمان لم يعد يستطيع النوم، فهو يرى في أحلامه زوجات أولئك الجنود وأطفالهم.”
يقول بِكمان “المسؤولية ليست مجرد كلمة، معادلة كيميائية تحوِّل لحم البشر الأبيض إلى تراب أسمر. لا يمكن أن ندع البشر يموتون من أجل كلمة فارغة. ولا بد من الذهاب بمسؤوليتنا إلى مكان ما. الموتى.. لا يجيبون. الرب.. لا يجيب. لكن الأحياء يسألون. يسألون كل ليلة يا سيادة العقيد. عندما أرقد يقظًا، يأتون إليَّ ويسألونني. نساء يا سيادة العقيد، نساء حزينات يُقِمن الحداد. عجائز بشعر رمادي وأيادٍ صلبة متشققة، شابات بعيون وحيدة متشوقة. أطفال يا سيادة العقيد، أطفال، أطفال صغار كثر.”
ويتابع في المسرحية “ثم يهمسون من الظلام: ‘الرقيب بِكمان، أين أبي أيها الرقيب بِكمان؟’، ‘الرقيب بِكمان، أين ابني؟’، ‘أين أخي أيها الرقيب بِكمان؟’، ‘أين خطيبي أيها الرقيب بِكمان؟’ “أيها الرقيب بِكمان: أين؟ أين؟ أين؟” هكذا يهمسون حتى يطلع الفجر. إنهن إحدى عشرة امرأة فقط يا سيادة العقيد، أنا مسؤول عن إحدى عشرة امرأة فقط. كم يبلغ عددهن بالنسبة إليك يا سيادة العقيد؟ ألف؟ ألفين؟ هل تنام جيدًا يا سيادة العقيد؟ لن يضيرك إذن أن أعطيك، إلى جانب الألفين، مسؤولية رجالي الأحد عشر. هل تستطيع أن تنام يا سيادة العقيد؟ مع ألفي شبح ليلي؟ هل تستطيع أساسًا أن تعيش يا سيادة العقيد، هل تستطيع أن تعيش دقيقة من دون أن تصرخ؟ سيادة العقيد، سيادة العقيد، هل تنام في الليل بعمق؟”
ويلفت جريس إلى أن بورشرت لم يكن يتوقع للمسرحية أي نجاح، لذا أعطاها عنوانا فرعيا هو “مسرحية لا يريد أي مسرح أن يعرضها، ولا يريد أي جمهور أن يشاهدها.” غير أنه كان مخطئا. أُذيعت المسرحية كتمثيلية إذاعية في فبراير 1947، ولاقت نجاحا هائلا أدهش كاتبها. وسرعان ما انهالت عليه العروض من المسارح الألمانية، كما وجدت قصصه وأشعاره طريقها إلى المطبعة في زمن كان الورق فيه شحيحا للغاية. لكن بورشرت لن يرى كتبه مطبوعة، ولن يرى العرض الأول لمسرحيته على خشبة مسرح مدينته هامبورغ في ليلة الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1947، إذ وضع الموت قبلها بيوم واحد نهاية لحياته في أحد مستشفيات بازل في سويسرا عن ستة وعشرين عاما، لتكون حياته تعبيرا عن المأساة التي حاول أن يعبّر عنها أدبيا.
ويوضح أن بورشرت لم يتساءل في مسرحيته عن مسؤولية الألمان في نشوب الحرب، لا يسأل نفسه عن مشاركة الملايين في الجنون النازي، واقتناع الأغلبية بأنهم يخوضون حربا عادلة، ولا يتساءل عن دور الجيش، الذي كان جنديا فيه، في جرائم الحرب الكثيرة التي ارتكبت، والمذابح التي نفذتها قوات هتلر الخاصة، وبالطبع لا يتحدث عن المحرقة اليهودية التي من المرجح أنه لم يكن يعلم أبعادها الحقيقية في تلك الفترة.
ويؤكد جريس أن نص بورشرت ابن زمنه، وابن وعيه الشخصي والجماعي. هو صرخة تعبر عن معاناة جيل، جيل يرى نفسه بريئا، أجبر على الاشتراك في حرب لم يردها، مجرد ضحية. هذا هو سر نجاح هذا النص في ألمانيا عندما كتبه بورشرت على فراش المرض عام 1947، وسبب نجاحه الخارق جماهيريا عندما تجسد النص على خشبات المسارح في ألمانيا.

استعادة المسرحية
يتساءل: هل يمكن تقديم نص كهذا-كما هو- على خشبة المسرح الآن؟ جندي نازي يجد نفسه ضحية، وينتظر تعاطف المشاهدين معه؟ لكن ألا يعبر النص أيضا عن ملايين من البشر الذين يجدون أنفسهم في ساحات الحرب، في أوكرانيا، والسودان، واليمن، وليبيا، وسوريا؟ إن مسرحية بورشرت تكتسب بالفعل راهنية واسعة في وقتنا الحالي الحافل بالحروب بمختلف أشكالها. لكنه بحاجة إلى تعديل، إلى “معالجة” حديثة تجعله معبرا عن “الهنا” و”الآن”.
بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور مئة عام على مولد بورشرت احتفت عدة مسارح ألمانية عام 2021 بمسرحيته اليتيمة، وأعادت عرضها برؤية جديدة. ومن هذه المسارح مسرح برشت العريق في برلين، المعروف باسم “برلينر أنسامبل” الذي قدم المسرحية في الخامس والعشرين من مارس 2022، بعد نحو شهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا، ما منحها راهنية وإقبالا جماهيرا كبيرا. وما زالت المسرحية تُعرض بنجاح على خشبة المسرح. أخرج العرض الجديد المخرج ميشائيل تالهايمر، وأعدت النص أميلي جوانا هاغ.
جاء العرض الجديد مبهرا من ناحية التقنيات المسرحية، لاسيما من ناحية الإضاءة.
عندما يزاح الستار يرى المشاهد خشبة مظلمة، تتدلى من سقفها مصابيح ملونة صغيرة، ثم تضيء في البداية إضاءة خافتة، مثل النجوم في السماء، وهو ما يتلاءم تماما مع المشهد الأول في المسرحية عندما يقف الجندي العائد عند نهر الإلبه محاولا الانتحار. ولعل هذا المشهد الافتتاحي يعبر عن إشكاليات العرض الجديد. المصابيح التي تضيء خشبة المسرح فكرة جميلة ولا شك، لاسيما في مشهد نهر الإلبه، لكنها تفقد معناها مع تغير المشاهد، وثبات المصابيح التي يزداد ضوؤها قوة.
أيضا يكتشف المتفرج أن الجندي أصبح في المعالجة الجديدة “جندية”، رغم أن المسرحية تتحدث عن الفترة التي أعقبت النازية في ألمانيا، ربما انسياقا إلى “ترند” تحويل بعض الشخصيات في أعمال كلاسيكية إلى نساء، أو مثليين، الرب في المسرحية يشخصه رجل يرتدي فستانا أنثويا، والموت أيضا مخنث، رجل بثديي امرأة. هذه التغييرات ليست سيئة في حد ذاتها، لكنها لم تنجح في رأيي في تحرير النص من زمن كتابته، وجعله نصا صالحا لهذا الزمان.
ويرى جريس أن النص الأصلي، إذا خلصنا الحكاية من خلفياتها، يتحدث عن معاناة جندي خاض حربا وتعرض للموت ومر بمآس، رأى الموت بعينيه، فقد زملاء له، ويشعر بمسؤوليته عن مقتل جنود كان مسؤولا عنهم -هذا الجندي يعود ولا يجد حتى مكانا يؤويه. يلفظه المجتمع الذي أرسله إلى الحرب، فيجد نفسه في العراء، أمام كل الأبواب.أما هنا فإن النص الأصلي فقَدَ حرارته، من دون أن يكتسب آنية ملامح جديدة. عن نفسي لم أستطع التعاطف مع هذا الجندي العائد، ذي الوالدين النازيين، الذي لا يتساءل أبدا عن مسؤوليته هو، لا يتساءل عن سلبيته أو عدم تمرده. لقد فشل المخرج في صنع معالجة معاصرة، تخاطب المشاهدين في عام 2023.

◄ المسرحية أحد أهم الأعمال الدرامية التي تكشف عن أوجاع الحرب وما يترتب على العائدين منها في مواجهة المجتمع