مستقبل "النانو بولتيك" الروسي في سوريا

الشيخ طريف قطع بالرسالة التي حملها إلى موسكو الطريق على العمليات الروسية في السويداء فما يمكن تطبيقه في درعا وحمص وحماة غير ممكن في معقل الطائفة الدرزية السورية.
الخميس 2022/02/24
الروس انزعجوا مما أبلغهم به الشيخ طريف

تستطيع البوتينية اليوم إظهار قدراتها الهائلة في مواجهة ما تسميه بالخطر الداهم والتهديد الوجودي أمام اقتراب قوات الناتو من حدودها، كما يجري في الأزمة الأوكرانية المتصاعدة، إلا أنها تصعّب الأمر كثيرا في الملف السوري. فهي موجودة وفق صفقة مع القطب الذي تقاومه في الشمال من سوريا، حيث أوكرانيا. وصفقتها تلك التي توافق عليها وزيرا الخارجية سيرجي لافروف وجون كيري في جنيف ما تزال تعمل إنما من دون تحديد مشهد ختامي.

تبدو روسيا كمن يقوم بعمليات جراحية دقيقة في جسد النظام السوري، كما فعلت وتفعل عسكريا مع الفصائل الخارجة عن سلطته. عمليات يمكن تسميتها بـ”النانو بولتيك” في مفاصل الدولة ومؤسساتها لإحداث التغيير المتفق عليه، ولكن هل يشعر بوتين أنه متاح له الاطلاع الكافي على كامل المشروع الأميركي في سوريا؟ الأمر ليس مؤكدا حتى الآن، بدليل محاولته سحب ورقة حزب العمال الكردستاني من أيدي الأميركيين، كما عبّرت عن ذلك تصريحات مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف الأخيرة والتي طالب فيها بضم ما تعرف باسم “مسد” إلى اللجنة الدستورية والعملية التفاوضية.

بعض المسؤولين الروس مستعجلون، لم يعودوا قادرين على تحمّل سياسة الصبر الاستراتيجي التي يتمتع بها بوتين، والتي يحرص عليها رئيس النظام السوري بشار الأسد كل الحرص، آملا بالاستفادة من المتغيرات من حوله. تلك السياسة التي برهنت على جدواها مرارا بالنسبة إليه.

غير أن روسيا لن تتبع في سوريا نهجا مخالفا لما اتبعته في جمهورياتها ذاتها، وفي روسيا الأم حيال الدعوات إلى التظاهر ومحاولات تعزيز وجود معارضة سياسية حقيقية تمارس ضغوطا على القرار المركزي في الكرملين. وهذا ما فعلته في السويداء مؤخرا، حين سرّبت أجهزتها أنباء عن هجمات إرهابية قد تحدث في حال تنامي الحراك الشعبي المطلبي في جبل العرب. هو “نانو بولتيك” أيضا، يجري بالتنسيق مع طرف آخر هذه المرة، فروسيا التي تخشى على هيمنة مؤسسات النظام في منطقة حساسة، ليست صاحبة القرار الوحيد في تلك المنطقة، وهو ما عبّرت عنه زيارة خاطفة قام بها شيخ عقل الموحدين الدروز في فلسطين موفق طريف، والذي يمثل ثقلا من نوع آخر لم يكن قد دخل على خط الأزمات في سوريا من قبل.

بعض المسؤولين الروس مستعجلون، لم يعودوا قادرين على تحمّل سياسة الصبر الاستراتيجي التي يتمتع بها بوتين، والتي يحرص عليها رئيس النظام السوري بشار الأسد كل الحرص

قطع الشيخ طريف بالرسالة التي حملها إلى موسكو الطريق على العمليات الروسية في السويداء، فما يمكن تطبيقه في درعا وحمص وحماة وريف دمشق، غير ممكن في معقل الطائفة الدرزية السورية.

انزعج الروس مما أبلغهم به الشيخ طريف، فهو لم يكتف بالحديث عن تحسين الظروف المعيشية للسكان في السويداء، ولم يقض الوقت في هذا الفصل البارد من السنة في موسكو بالحديث عن التسوية مع بوغدانوف رفقة المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون التسوية السورية ألكسندر لافرنتييف.

بدت جميع مطالب الشيخ طريف مقبولة تماما من جانب الروس، مثل ضرورة إيجاد آلية لتقديم المساعدات لأبناء الطائفة في الجبل، وتسهيل إنشاء مشاريع اجتماعية واقتصادية لتنمية الاقتصاد المجتمعي، علاوة على فتح معبر آمن مع الأردن لإنعاش جبل العرب اقتصاديا وتوفير فرص المعيشة اللائقة، وضرورة ترسيخ مكانة وموقع الدروز في الدستور السوري الذي تجري مناقشته تحت إشراف الأمم المتحدة. وفي الواقع أن الدروز السوريين لم يكترثوا مرة واحدة في تاريخهم الوطني الطويل في سوريا بمسألة مكانتهم في الدستور، ولم يقلقوا من أي تهميش أو استثناء، فقد كانت حقوقهم تلك خارج أي نقاش، حفروها بأيديهم من خلال دورهم الوطني السياسي الكبير في كل مرحلة مرّت بها البلاد.

لكن كانت كلمة السر في تلك الاجتماعات أن هناك من يراقب الأوضاع وأن خطا أحمر حقيقيا هذه المرة يتعلق بتهديد وجودي يطال الموحدين الدروز يكاد الأسد وداعموه الروس يدوسون عليه وأن إسرائيل لن تسمح بذلك.

هذا المتغيّر الجديد يخالف الاتفاق القائم بإطلاق اليد الروسية في هندسة الأوضاع السورية، فحتى العامل الإيراني استطاعت روسيا التغلب على تناقضاته داخل الساحة السورية، وإمساك العصا من المنتصف دون أن يعرقل هذا العمليات العسكرية الإسرائيلية والأميركية هناك.

تحوّل يكبّل يد الروس أكثر من يد الأسد، فماذا لو أفلتت الأمور في السويداء؟ وتحولت إلى مكان خارج سيطرة الأسد، لكن هذه المرة، لا توجد حركات إسلامية سنية متطرفة ولا قاعدة ولا داعش ولا ما يشابهها. كيف ستكون الحال آنئذ؟

الجواب عند الروس لم يكن في السويداء، ولكن في اللعب على وتر ما تعرف باسم الإدارة الذاتية الكردية، وما دام هناك من يطالبهم بتخفيف القبضة عن مكون سوري في الجنوب، فلماذا لا تكون لهم حصة عند مكون آخر في الشمال؟ بمعنى آخر، لماذا تثقون بنا في السويداء ولا تثقون بنا في التعامل مع الأكراد؟

ستبقى سوريا لغزا حتى بالنسبة إلى الروس، وليس مضمونا أن تنجح عملياتهم الدقيقة مادامت الصلاحية الحيوية لكافة المشاريع السياسية القائمة والمقترحة في سوريا قد انتهت، فهم يقومون بكل ما يمكنهم القيام به، دون أن تتقدم الأمور. لا يمكن إعادة الساعة إلى الوراء وإحداث نصر سياسي كما حصل عسكريا، والعقوبات تزيد الأوضاع سوءا، ومحاولة رفعها ليست مضمونة إلا بالخروج عن قرارات مجلس الأمن التي تعتبر العمود الفقري للعملية التفاوضية والحل السياسي الذي يقول العالم إنه الوحيد في سوريا. وحتى يحصل ذلك يمكن للروس أن يستخدموا الورقة السورية للقول إنهم موجودون أيضا على حدود الناتو الجنوبية ومسيطرون تماما انطلاقا من سوريا التي زارها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويوغو فجأة في عز الحديث عن غزو أوكرانيا، تزامنا مع إعلان روسيا وصول قاذفات محملة بصواريخ فرط صوتية من نوع كينجال إلى قاعدة حميميم الروسية الجوية في سوريا، للمشاركة في التمرين البحري للتجمع المشترك بين أساطيل البحرية في الجزء الشرقي من البحر المتوسط.

9