مستقبل الجزائر في الإنسان وليس في الطفرات النفطية

الشارع الجزائري تجاوز في تفكيره مستويات المنظرين للحكومة فتجربة تبديد أكثر من ألف مليار دولار من عائدات نفطية سجلت خلال عقد ونصف عقد لا يراد لها أن تتكرر خلال الطفرة الحالية.
السبت 2022/03/12
في غياب استراتيجيات حقيقية للتغيير

تعوّد الجزائريون على تعليق آمالهم على كل أزمة تعيد للطاقة هيبتها في الأسواق الدولية، والاستفادة من ريعها، ما دامت هي المصدر الوحيد للرزق في البلاد، ورغم الارتباكات التي تفاجئهم من حين إلى آخر، إلا أن الجميع لا زال بعيدا عن استيعاب المخاطر الحقيقية لرهن مستقبل الأجيال في ثروة زائلة تخضع لمؤثرات بعيدة عن الأيدي.

وكما سجل النفط طفرات عديدة، سجل أيضا تدهورا سحيقا في بعض الأحيان، إلى درجة صارت معها، منذ سنوات قليلة فقط، تكلفة إنتاجه تفوق أسعاره في الأسواق الدولية، ورغم ذلك عادة ما تلجأ الحكومات المتعاقبة إليه كملاذ وحيد للخروج من وطأة الأزمات ومحدودية الرهانات.

 ومنذ ثمانينات القرن الماضي، يتردد على أسماع الجزائريين خطاب يعد بتعديل النهج الاقتصادي والتحرر من التبعية النفطية، إلا أن كل المحاولات فشلت إلى حد الآن، في ظل غياب استراتيجيات حقيقية للتغيير. وما سقطت البلاد في أزمة، إلا وبقيت السلطة متشبثة بما سيدر برميل النفط على الخزينة العمومية.

وتعد تجربة العام 2008 واحدة من تجارب عديدة مشابهة. ولو أن الرقم القياسي لأسعار النفط لم يتحقق إلا حينذاك، وأحست الحكومة حينها أنها فوق السحاب، فقد تراءى لها أنه بأموال النفط يمكن فعل كل شيء؛ شراء سلم اجتماعي وبناء اقتصاد، وإلغاء مديونية، وإبرام صفقات كبيرة، وتنفيذ مشاريع ضخمة.. وغيرها. لكن الرأسمال الحقيقي، وهو الاستثمار في الإنسان، بقي في آخر اهتماماتها، ليستمر النزيف الشامل في الطاقات والكوادر البشرية.

ورغم أن النقيض كان ماثلا للعيان منذ صيف عام 2014، حيث تهاوت المداخيل وتآكل احتياطي الصرف وتعطل كل شيء في البلاد، ولم تجد الحكومة بدا حتى من وقف العشرات من المشروعات بسبب شح الموارد المالية، إلا أن التجربة ها هي تتجه للاستنساخ مع طفرة الأسعار الجديدة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث لوحظ انتشار حالة من التفاؤل في أوساط الدوائر الحكومية رأت في تبعات الأزمة الأوكرانية فرصة لحل أزماتها.

بوادر تكرار التجارب الماضية تلوح في الأفق، في ظل إحساس لدى المسؤولين بأن الطفرة النفطية ستزيل عنهم الأثقال المتراكمة، خاصة في الجبهتين الاقتصادية والاجتماعية. لكن لا شيء بالموازاة يشير إلى أن الإنسان سيكون في صلب برامج الحكومة، فمنذ أسابيع غادر البلاد 1200 طبيب إلى فرنسا، وبعدها قررت الحكومة صرف منحة بطالة يستوي فيها من تخرج من الجامعة ومن تسرب من المدرسة.

واللافت في هذا الشأن أن الشارع الجزائري تجاوز في تفكيره مستويات المنظرين للحكومة، فتجربة تبديد أكثر من ألف مليار دولار من عائدات نفطية سجلت خلال عقد ونصف عقد لا يراد لها أن تتكرر أو تستنسخ خلال الطفرة الحالية. إنفاق المال العام على تكوين الإنسان والاستثمار في قدراته وإبداعاته هو المخرج الوحيد لصناعة ثروات حقيقية في البلاد، ما عدا ذلك هو تبذير وتبديد سرعان ما يعود بالبلاد إلى مربع الصفر.

في كل الجامعات والمراكز العلمية والشركات الكبرى العالمية توجد طاقات جزائرية أثبتت جدارتها وكفاءتها في إدارة دفة المسؤوليات الموضوعة هناك بين أيديها، بينما في بلادها لا مكان لها، لأن الاهتمام مركز على الاقتصاد الريعي والاستيراد والخطب السياسية الرنانة، وإلا ما معنى أن تستهلك الدولة أربعة عقود كاملة من أجل تغيير بوصلة الاقتصاد ومع ذلك لا شيء تحقق.

 لقد كان أمام الجزائر فرصة شراء 30 في المئة من شركة بيجو لصناعة السيارات عام 2006 بستة مليارات دولار، واستقطاب كوادرها وكفاءاتها الباحثة عن الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة، وكان بإمكانها أيضا شراء رأسمال شركة سويدية لصناعات السيارات بملياري دولار، عندما كانت الأزمة المالية تأكل الاقتصادات الأوروبية. لكن السلطات ومن ورائها اللوبيات المتنفذة لم تكن ترغب في ذلك، لأن مصالحها تتحقق في الاستيراد، وليس في سماع أصوات الخبراء الذين نصحوا بإتمام الصفقات، وهكذا ضاعت فرصة أخرى، كما ضاعت فرص عديدة من قبل أتيحت للبلاد للاستفادة اقتصاديا وبشريا.

ولعل الخاسر الأكبر في كل ذلك هو قيمة العمل والإبداع الذي تستثمر فيه القوى الناشئة. وبينما يتكل المواطن الجزائري في كل شيء على خزينة الدولة، نرى في المقابل حكومة لا يهمها إلا شراء السلم الاجتماعي من أجل ضمان استقرار الشارع وعدم إزعاجها، ولذلك جاءت طفرة النفط هدية من السماء، على الأقل لتمويل منحة البطالة المستحدثة مؤخرا.

وبدل أن يجري تنفيذها لإعالة الفئات المعنية، خيم عليها جو من التهويل والتهليل، وكأن الحكومة حققت إنجازا عظيما، وهو ما يوحي بأن الأمر يراد منه كسب نقاط مهمة في سلم الشعبية المتهالكة، ولا يستبعد أن تتبعها إجراءات اجتماعية أخرى تنقص من قيمة العمل والإبداع، ما دام برميل النفط يضخ المزيد من العوائد، فالمهم هو صمت ورضا الشارع، وليس الاستثمار في الإنسان المصدر الأول والأخير والحقيقي لأي ثروة مستدامة.

9