مستشارو زمن مضى

تذكرت أن مؤسسي هذه الدول الشقيقة، منذ أن بدأوا في بناء أوطانهم، كانوا يستوعبون كل ذي ديانة، توخياً للإفادة.
الأحد 2020/04/19
طلعت الغصين.. مستشار من قلب المشرق العربي

منذ بدايات التشكل الكياني المعاصر، في الجزيرة العربية، كان للمستشارين الوافدين من قلب المشرق العربي، دورهم وتجاربهم وحكاياتهم المشوّقة. وكان الحكام، على بساطتهم في تلك الأيام، يُحسنون اختيار مستشاريهم، ربما أفضل من اختيارات حكام لاحقين وراهنين، في دول أسبق إلى الاستقلال والعمران. فالمستشار القديم، يمتلك ثقافة متنوعة، ويأخذ من كل علم بطَرف، ظريفاً يجيد المؤانسة والمجالسة، ويحفظ الكثير من قصائد أو أبيات الشعر العربي الساطعة!

لعل الأشهر من بين هؤلاء، هو فؤاد حمزة، الكاتب والباحث والشاعر الذي يمم وجهه شطر السعودية قبل تأسيس المملكة بحدودها بعدة سنوات. أصبح فؤاد، وهو لبناني درزي الديانة، أقرب مستشاري الملك عبدالعزيز إلى قلبه، وأوثقهم إليه في عمله. فقد بدأ مترجماً، ثم مستشاراً، فموفداً رسمياً إلى العالم، ومُنتج أفكار. وهو من النوع اللبيب الذي يفهم بأقل من إشارة، وسرعان ما يُغني الخاطرة بالمعلومة.

وكان طلعت الغصين، الفلسطيني المتخرج من الجامعة الأميركية في القاهرة في منتصف الأربعينات، قد سافر للعمل مدرساً للغة الإنجليزية في اليمن. وخلال أسابيع، لم يجد الإمام من يترجم له محادثاته مع وفد أجنبي، سوى المدرس الجديد، فاستبقاه في قصره، وكان شرط الظُرف وطلاوة الحديث، سبب انتقاله للعمل مستشاراً لعاهل البلاد، ثم إهدائه إلى الكويت، في مرحلة تأسيسها لوزارة الخارجية، وتشكيل وفدها لطلب الاستقلال من الأمم المتحدة. ذات يوم، وبدافع الشغف بالتاريخ، علمت أن الرجل الثمانيني اختار أن يقضي شيخوخة هادئة في منزل ابتاعه في حي جديد على البحر في تونس.

كنت هناك في زيارة، اتصلت به وطلبت موعدا، ويبدو أن شيئاً من الضجر، جعله يرسل إلي سيارته بعد نحو الساعة. وصلنا ودق السائق الجرس، ففتح الباب شاب في نحو الأربعين من العمر، أشار في صمت إلى موضع جلوس الحاج طلعت. بعد السلام وعبارات التحية واستكمال التعارف، سألته أين ابنك الذي فتح لي الباب؟ قال: هو بمثابة ابني، لكن في الجواب عن سؤالك، هناك ثلاث مفاجآت لك. الأولى أن الشاب هو سفير الكويت الراهن لدى تونس، وبحكم انقطاع العلاقات معكم كمنظمة تحرير، إثر غزو العراق الكويت، فقد انسحب. والثانية أنه من أصل فلسطيني من غزة، والثالثة أنه مسيحي الديانة. سرعان ما أدركت أنه ابن فلان، ضابط الشرطة، الذي أعارته سلطة الانتداب البريطانية في فلسطين، إلى الكويت لتنظيم شرطتها. يومها، تذكرت أن مؤسسي هذه الدول الشقيقة، منذ أن بدأوا في بناء أوطانهم، كانوا يستوعبون كل ذي ديانة، توخياً للإفادة.

24