مسؤولة أممية تفتح ملف الفساد الليبي وتداعياته على العملية السياسية

عاد ملف الفساد ليفرض نفسه في مسارات الأزمة الليبية، مع تأكيد القائمة بأعمال الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة بالنيابة دوروثي شيا، أن موارد ليبيا “ملك لجميع شعبها، وليس فقط القلائل الذين يمكنهم وضع أيديهم عليها،” لتسلط الضوء على قضية باتت أحد المعطلات للمسار السياسي.
وأشادت شيا بمعايير التصنيف المحدثة التي وضعها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للأفراد والكيانات التي تزعزع استقرار ليبيا من خلال الاستغلال غير المشروع وتصدير النفط، مشيرة إلى أن “تهريب الوقود يؤدي إلى نقل هائل للثروة خارج ليبيا، ومن أجل رفاهية الشعب الليبي، يجب معالجة هذه السرقة والفساد.”
وأوضحت أن مفتاح حماية سيادة ليبيا وسلامة أراضيها هو إعادة توحيد المؤسسات، وهو ما أصبح مسموحا به الآن بعد تعديل المجلس لحظر الأسلحة الشهر الماضي.
ويؤكد متابعون للشأن الليبي أن البلد يعاني من طبقة سياسية تحترف الفساد وتتخذ منه هوية اجتماعية وثقافية وتنطلق منه في تحديد مصالحها وتحالفاتها الداخلية والخارجية وفي تأمين مواقعها في السلطة، وهو ما يجعل مبدأ التداول السلمي على السلطة أمرا صعبا، كما أن مشروع الانتخابات لا يزال يواجه عراقيل عدة نتيجة سيطرة أباطرة الفساد على مراكز القرار ومفاصل الدولة.
وأضافوا أن الفساد في ليبيا تحول الى نمط حياة وسلوك ممنهج، وأصبح جزءا أصيلا من النظام السياسي والاجتماعي، ومحركا أساسيا للنشاط العام، حتى أن كل خطوة مرتبطة بمبادرات الحل السياسي أو الأمني لا يمكن فصلها عن خطط التلاعب بالمال العام والعبث بمقدرات الدولة.
ورأى أستاذ القانون في جامعة درنة راقي المسماري، أن الفساد في ليبيا متجذر منذ عقود، بسبب غياب آليات المحاسبة والرقابة الفعالة، ما جعل المال العام مستباحا في ظل غياب النزاهة والشفافية في التصرف فيه.
وقال المسماري إن الأجهزة الرقابية في ليبيا فقدت فعاليتها بسبب المحاصصة القبلية والجهوية، مما جعلها غير قادرة على أداء دورها بالشكل المطلوب في مكافحة الفساد، لافتا إلى أن تفشي الفساد لا يعود فقط إلى ضعف المؤسسات الرقابية، بل أيضًا إلى غياب الوازع الديني والحس الوطني والثقافة المجتمعية التي ترفض الفساد، مما جعل هذه الظاهرة تزداد سوءًا بمرور السنوات.
وحذر المسماري من استمرار الوضع الحالي، مؤكدًا أن غياب الرقابة والمحاسبة سيؤدي إلى كارثة اقتصادية مستقبلية، قد تحرم الأجيال القادمة من أبسط حقوقها، مشيرًا إلى أن العجز المالي بدأ يظهر بوضوح في المرتبات والخدمات العامة، وشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات إصلاحية جادة لمكافحة الفساد وضمان نزاهة التصرف في المال العام.
وفي ديسمبر الماضي، نظمت هيئة الرقابة الإدارية في ليبيا ندوة عن واقع الفساد بالبلاد تم خلالها توقيع بروتوكول الإستراتيجية الوطنية للرقابة على الأداء ومكافحة الفساد والوقاية منه (2023-2025).
وقال رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي إن مكافحة الفساد ليست مجرد ضرورة أخلاقية فحسب بل شرطا أساسياً لتحقيق التنمية الشاملة، وحماية مقدرات الشعوب، مشدداً على أن الفساد بصوره المعقدة وتأثيراته العميقة يهدر الموارد المالية والبشرية ويعوق التقدم في المجالات كافة.
مشروع الانتخابات لا يزال يواجه عراقيل عدة نتيجة سيطرة أباطرة الفساد على مراكز القرار ومفاصل الدولة
وفي نوفمبر الماضي، كشف تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2023، عن وجود مخالفات مالية وإدارية، وإهدار للأموال، وضعف للأداء، ووجود فساد طال أغلب القطاعات، وهو ما أثار موجة من الاستياء بين المواطنين، الذين اعتبروا أن هذه التقارير أصبحت مجرد توثيق للأوضاع دون أن تترجم إلى خطوات ملموسة لمكافحة الفساد.
وأعلنت النيابة العامة الإثنين الماضي، توقيف رئيس لجنة إدارة شركة الواحة للنفط، بعد تحقيقات كشفت عن مخالفات جسيمة في إدارة الشأن المالي للشركة، مما أدى إلى تعريض المصالح العامة للخطر. وقال مكتب النائب العام، أن التحقيقات الأولية أظهرت أن رئيس لجنة إدارة الشركة، فتحي بن زاهية، لم يلتزم بمقتضيات المصلحة العامة، حيث تعمد إبرام عقد بنحو 770 مليون دينار (نحو 157 مليون دولار) لإنشاء حواجز مخففة لحركة أمواج البحر قبالة ميناء السدرة النفطي، رغم أن أحد العروض المقدمة لتنفيذ المشروع لم يتجاوز 339.84 مليون دينار.
وبحسب بيان النيابة العامة، أظهرت التحقيقات أنه بدافع تحقيق منافع غير مشروعة، خالف المسؤول القوانين الناظمة بإسناد أعمال تأهيل حقل الظهرة النفطي إلى شركة أُسست حديثاً في عام 2022، وصرف لها 140 مليون دولار خلال عامي 2023 و2024 رغم افتقارها الخبرة المطلوبة. وإضافة إلى ذلك وفقاً للتحقيقات، فقد تعمد المسؤول عن الشركة إساءة استخدام سلطته الوظيفية بصرف 100 مليون دولار لشركة أخرى تعاقدت على أعمال حفر آبار نفطية لمدة ثلاث سنوات، دون أن تقوم بأي أعمال فعلية.
كما شملت التحقيقات عقود إيجار مبانٍ سكنية لموظفين مكلفين بالرقابة على أعمال الشركة بمبلغ 50 ألف دينار شهرياً، إلى جانب تعديل أسعار عقود خدمات وأعمال حفر بقيم تجاوزت مليوني دولار وصرف 214 مليون دولار لشركات وطنية تعمل داخل ليبيا.
ليبيا تصنف ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم بما يشير إلى تفاقم ظاهرة العبث بمقدرات البلد الثري بالنفط والغاز
واعتبر النائب العام، المستشار الصديق الصور، أن استشراء الفساد تسبب في هوة سحيقة في توزيع الدخل بين أبناء الشعب الليبي، داعيا الجهات المختصة إلى العمل على ضرورة تطوير أنظمة العدالة ووضع سياسة جنائية لمواجهة الفساد المستشري في القطاعات العامة.
ورأى الصور إن عدم المساواة في توزيع الدخل “يفضي لاستفادة فئات محددة على أغلبية أبناء الشعب.. ويسبب هوة سحيقة بين من يملك كل شي ومن لا يملك شيئًا،” لافتا إلى أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية صاحبها ارتكاب العديد من جرائم الفساد، واستحداث أنماط أخرى منها وهو “نتيجة لفشل المجتمع في التنبؤ لهذا النوع من الإجرام.”
وأوضح النائب العام أن بإمكان ليبيا مواجهة هذه الجرائم من خلال عدة وسائل من أهمها “وضع السياسة الجنائية لمواجهة جرائم الفساد في إطار إستراتيجية التنمية الشاملة،” مشيرا إلى ضرورة أن تكون جزءا من إستراتيجية التخطيط الشامل للدولة.
وأكد الصور أن التقليل من جرائم الفساد يتطلب التنسيق بين جميع قطاعات المجتمع من خلال وسائل منع الجريمة التي ترمي إلى إزالة مسبباتها في مختلف القطاعات، وحث على ضرورة تطوير قطاعات التعليم وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة للمساعدة في مواجهة الجريمة داعيًا إلى إعادة النظر في منظومة العدالة من أجل التصدي لأنماط الجريمة المتطورة.
وتصنف ليبيا ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم بما يشير إلى تفاقم ظاهرة العبث بمقدرات البلد الثري بالنفط والغاز في شمال أفريقيا بعد احتلالها المرتبة الـ173 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لمؤشر الفساد للعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
ويتولى المؤشر سنويا تصنيف 180 دولة حول العالم بناء على مستويات الفساد في القطاع العام وفقا لمؤشرات عدة، بينها الشفافية والمساءلة وإنفاذ القانون وحرية الصحافة واستقلال القضاء، ويجرى منح كل دولة درجة من 0 الذي يرمز لشدة الفساد إلى 100 الذي يمنح للدول الأكثر نزاهة وتميزا في اعتاد الحكومة الرشيدة.
ورأى عضو مجلس الدولة سعد بن شرادة، أن نهب أموال الدولة الليبية يتم أمام الجميع بينما يقف الليبيون عاجزين عن إيقافه، وتابع أن الشعب الليبي يعاني ويئن وأقصى طموحه اليوم أن يقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي منشورا عن نزول الرواتب، مؤكدا أن ما يحدث اليوم في ليبيا هو عملية نهب ممنهجة لا يمكن السكوت عنها، مردفا أن هذه المرحلة من النهب لم يسبق لها مثيل في تاريخ ليبيا الحديثة منذ استقلالها وهي كارثة حقيقية.