مزرعة الحيوان البريطانية

عدتُ لأقرأ “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، لأعرف ما هي “المؤسسة” التي قصدها جون ماكدونيل وزير الخزانة في حكومة الظل البريطانية.
ماكدونيل قال في لقاء مع أندرو مار، أحد كبار مقدمي برامج الـ”بي.بي.سي”، “إن المؤسسة هي التي هزمت جيريمي كوربن، وأنها بسيطرتها على الإعلام، سعت لشيطنته على امتداد أربعة أعوام متواصلة”.
ماكدونيل ليس رجلا عاديا على أي حال. فهو نائب في البرلمان منذ عام 1997. وخدم في حكومة الظل، منذ عام 2015. ووجد نفسه، بطريقة ما، على تماس مع “المؤسسة” التي ينتقدها ويحمّلها المسؤولية عن هزيمة حزبه.
ولكن ما هي تلك “المؤسسة” الغامضة. إنها ليست البرلمان بالتأكيد، ولا الحكومة بالطبع، لأنه ما من أحد يمكنه القول إن الحكومة تسيطر على الإعلام. الإعلام في المزرعة البريطانية “محايد”، كما يُقال، حيال كل الحكومات والأحزاب. ولا الجيش هو تلك “المؤسسة” ولا المخابرات ولا موظفو الخدمة المدنية. فهؤلاء وإن كانوا يخضعون لها إلا أنهم لا يرونها. ولا يعرفون عنها الشيء الكثير. ولا حتى الصحف البريطانية تتحدث عنها. إنها لغز، ولكن يبدو أنها تستطيع أن تختار من يفوز ومن يخسر في أي انتخابات، بصرف النظر عن خططه أو برنامجه.
"نابليون" تمكن من الانقضاض على السلطة ليكون "الأول" بين "متساوين" ويطرد منافسه الشرير "سنوبول"، فقد ظل متبوعا بكلابه
الخنزير “نابليون”، بحسب رواية أورويل، انتهى، على أي حال، فائزا بكل شيء. وصار بوسعه، في تناقض صارخ مع فلسفة “الحيوانية” (أنيموليزم)، أن يفعل ما يشاء، وأن يحرك “مؤسسته” الإعلامية التي يقودها الخنزير “سكويلر” للترويج لسياساته. أما الطبقة العاملة التي يمثلها الحصان “بُكسر”، فإنها لن تكتفي بالتصويت له، بل أنها سوف تعمل بجد وكد لصالح قائدها الجديد.
جيريمي باكسمان، أحد أشهر مقدمي الأخبار في الـ”بي.بي.سي”، عندما اختار أن يعمل فيلما وثائقيا عن الانتخابات الأخيرة، ذهب إلى مزرعة خنازير ليصور بيئة السباق قبل أن ينتقل إلى البرلمان.
كان فيلما وثائقيا ملفتا عن الأكاذيب. بعد ظهور نتائج الانتخابات، تطابقت الصور تماما مع الإجابة على سؤال بسيط: كيف تفوز بالسلطة، بصرف النظر عما تقول؟
شعرت بالحاجة إلى أن أعود إلى أورويل لعلّي أجد تفاصيل أكثر عن طبيعة تلك المؤسسة الغامضة التي تحدث عنها ماكدونيل.
المسألة ليست مسألة “يمين” ولا “يسار”. لا رأسمالية ولا اشتراكية. فهذا كلام عام، لا يصلح لوصف المؤثرات الحقيقية في “المزرعة”. ماكدونيل نفسه لم يكن بحاجة لهذه التصنيفات، رغم أنه كان أحد أبرز الذين وضعوا البرنامج الانتخابي لحزب العمال.
الكل في نظر “المؤسسة” حيوانات. ولكل منهم واجب يؤديه في خدمة مصالحها. وكل الحيوانات، بحسب الأفكار التي أعدها الخنزير الحكيم “ميجور”، متساوية، ولو كان بعضها يتمتع بمقدار من “المساواة” أكثر من غيره.
واحدة من أهم أصول الماغناكارتا ربما كانت هي فلسفة الـ”أنيموليزم” التي نصت في بعض فقراتها:
• كل من يسير على قدمين هو عدوّ.
• كل من يسير على أربع أو يطير هو صديق.
• يُمنع على الحيوان قتل حيوان آخر.
• كل الحيوانات متساوية.
ولئن تمكن “نابليون” من الانقضاض على السلطة ليكون “الأول” بين “متساوين” ويطرد منافسه الشرير “سنوبول”، فقد ظل متبوعا بكلابه، وانتهى إلى تحريم الاجتماعات يوم الأحد، وآثر أن يمارس سلطة مطلقة، وأن يقوم بإبلاغ الحيوانات بقراراته من دون أن يسمح بمناقشتها.
“نعم لذوات السيقان الأربع، لا لذوي الساقين”. لننجز الثورة. شعارات من هذا النوع هي التي سيطرت على المزرعة.
“نابليون”، يقول أورويل، لم يكن مضطرا في نهاية المطاف للظهور أمام الملأ. “كان يقضي معظم وقته داخل البيت تحرسه كلابه المتوحشة. وإذا خرج من عزلته فبمظهر تسوده مراسيم مهيبة تحت حراسة مشددة”.
ماكدونيل ليس رجلا عاديا على أي حال. فهو نائب في البرلمان منذ عام 1997. وخدم في حكومة الظل، منذ عام 2015. ووجد نفسه، بطريقة ما، على تماس مع “المؤسسة” التي ينتقدها
ربما كان هو المؤسسة، ولكن ما لا يعرفه أحد هو كيف يحكم؟ ومن هم أولئك الذين ينقلون أوامره؟ وما هي الضمانات بأنهم ينفذونها ولا يضيفون عليها شيئا من نباحهم الخاص؟ أم أن إخلاصهم وولاءهم لا جدال فيهما؟
إنهم من ذوي السيقان الأربع، دون أدنى شك. وبحكم هذه الطبيعة فإنهم مطيعون وأوفياء. والمزرعة التي ظلت تتغنى بنشيد “حيوانات إنكلترا”، سيظل بوسعها أن تقول:
“الثروات ستتجاوز أحلامنا
القمح والشعير والتبن، أجل
البرسيم، الذرة والشمندر
سيكون لكم منذ اليوم”.
يمكن لأي أحد أن يسمع النشيد. الكثير من النواب الجدد يرددونه. وتهتزّ جدران البرلمان للأصوات العذبة التي تترنم به. يمكن أيضا أن تسمع إضافات مهمة عليه، من قبيل القول “لن ندفع لأوروبا قرشا”. و”لن يغزونا المهاجرون من ذوي الساقين”.
ولكني لم أعثر على “المؤسسة”. وبدلا من أن أجد حلا للغز، فإن غموضه زاد، وغلبني الشعور بأن ماكدونيل ربما كان يطارد أشباحا، وأن الديمقراطية في المزرعة راسخة، وتقف على أربع أقدام.