"مروكية حارة".. غياب الإبداع على حساب سينما المؤلف

رغم أنه يتناول موضوعا مهما ويتطرق إلى شريحة واسعة من نساء المغرب اللواتي يحاولن التمسك بالتقاليد مع مواكبة تطورات العصر في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية معقدة، إلا أن فيلم "مروكية حارة" وقع في فخ المباشراتية والكليشيهات التي جعلته يبدو أقرب إلى الاستسهال في طرح القضايا وتحميل الدولة مصير الأفراد.
الرباط- تدور أحداث الفيلم السينمائي “مروكية حارة” للمخرج هشام العسري في مدينة الدار البيضاء حول شخصية خديجة المعروفة بـ”كاثي”، التي تمر بلحظات صعبة من العزلة والتشرد تكتشف من خلالهما تحديات الحياة، خاصة في عشية عيد ميلادها الثلاثين، عندما تدرك أنها تتعرض للاستغلال من قبل عائلتها وخطيبها، فتصبح امرأة ترفض الخضوع للمجتمع الذكوري من جهة لكنها صارت رجلا وطمست أنوثتها من جهة أخرى.
الفيلم من سيناريو هشام العسري، وبطولة فدوى طالب، مالك أخميس، صالح بن صالح، وكرم لمراني.
يُقابل عنوان “مروكية حارة” معنى “مغربية حارة” ويعكس مجموعة من الدلالات الثقافية والاجتماعية التي تستحق التحليل، حيث يُشير العنوان إلى فتاة تتميز بشخصية جريئة وقوية تعبر عن نفسها بثقة وتواجه تحديات الحياة بحماس وعزيمة. إذ أن كلمة “حارة” تُضفي على العنوان طابعًا من الحرارة العاطفية والقوة الداخلية وتشير إلى أن هذه الفتاة تمتلك جاذبية خاصة وقدرة على التأثير في محيطها.
من ناحية أخرى، يشير العنوان إلى جمال مميز وجاذبية جسدية حيث تُستخدم كلمة “حارة” لوصف الأشخاص الجذابين والمثيرين، ويُبرز هذا التفسير التصورات الثقافية المرتبطة بالجمال الأنثوي في المجتمع المغربي لدى البعض وبلغة الشارع.
ولكن يمكن أن نسأل عن المصطلح الشائع في المجتمع المغربي التقليدي القديم وهو “المرأة الحرة”، و لا نقصد بالحرة الحرية أو التحرر أو الانحلال الأخلاقي، بل كان آباؤنا وأجدادنا يلقبون المرأة التي تلد وتربي أجيالًا من الأطباء والمهندسين والأساتذة بالمرأة الحرة، وكذلك كانت المرأة المغربية التي ناضلت ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني تُلقب بالمرأة الحرة، وما زال آباؤنا وأمهاتنا يلقبون الفتاة التي لا تسمح للرجال بالاقتراب منها ولمسها بالمرأة الحرة، فأيهما الشخصية الحارة بالمعنى الحقيقي للكلمة حسب سياق الفيلم؟
يمكن لعنوان الفيلم أن يعكس البعد الاجتماعي والديناميكية اللذين تتمتع بهما فتاة مغربية، تجمع بين التقاليد الراسخة والانفتاح على العالم المعاصر دون المساس بالأخلاق العامة، لصالح الظروف الاجتماعية، إذ تكون هذه الفتاة رمزًا للمرأة المغربية الحديثة التي تحافظ على هويتها الثقافية وتسعى لتحقيق طموحاتها في مختلف مجالات الحياة بنقاء عقلي وجسدي، وروح أنثى حرة نفسيًا، ولكن ليست هذه الشخصية هي ما يتمحور حولها فيلم “مروكية حارة”.
تبدأ افتتاحية فيلم “مروكية حارة” بمشهد لأحلام اليقظة التي يعيشها بعض الأفراد، وينسبونها إلى الأزمة الاقتصادية في البلاد كسبب رئيسي يدفع العديد من أفراد المجتمع المغربي إلى التجارة بأنفسهم، إذ يعتبر هذا المدخل السينمائي بداية سطحية تفتقر إلى التعمق في السياق الاجتماعي والاقتصادي الذي أوجد هذه الظواهر من الناحية النفسية قبل النظر في الجوانب الاجتماعية. إذ لا يمكن أن نفهم شرب الخمر أو بيع الهوى من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية دون أن نتناول الجوانب النفسية والسيكولوجية التي تتداخل معهما، كما أنه لا يمكن أن ينغمس أحدهم في الفساد بسبب القمار مثلا أو زواج فاشل وينسب مصائبه إلى الدولة.
تقدم فدوى طالب شخصية خديجة بأسلوب ارتجالي يتوافق مع مجتمع يسوده الفقر والإحباط، حيث تنتقل بين المنازل والأماكن الهامشية بحثًا عن فرص حياة أفضل، لكنها تواجه عقبات متكررة دون أن تحقق أيّ تقدم يذكر، وتبرز متتالية الأحداث تفاصيل مأساوية للحياة اليومية التي تسيطر عليها الفوضى والإهمال، لكن الحوارات الاستبدالية في السيناريو تفتقر إلى التحليل العميق للأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد وتحليل الأسباب وراء وضعيات هذه الشخصيات، ما يجعل من الصعب فهم الخلفيات الحقيقية التي يحاول الفيلم التطرق إليها، وهذا يرجع أيضا إلى رغبة المخرج والسيناريست في حكي كل شيء دفعة واحدة بشكل مباشر، ما يحدث تداخلا في الأفكار والحوارات وينتج عنه تشتيت الانتباه من جهة وفقد الرسالة السينمائية من جهة أخرى.
يستعمل كاتب السيناريو الخطاب المباشر لانتقاد السياسات الحكومية كسبب رئيسي في الظروف السلبية التي يعيشها الأفراد المهمشون متجاهلا المسؤولية الفردية، كما في حالة تعاطي المخدرات، حيث ينبغي أيضًا توجيه اللوم للأفراد الذين يشترونها ويتعاطونها، فلا يمكن إلقاء اللوم فقط على الحكومة بشأن ممارسة الدعارة مثلا إذ ينبغي معالجة قضايا التوعية والتربية أيضًا، ولا أظن أن الشرطة مثلا ستعتقل رجلا أو امرأة في مكتبة عامة يقرأ كتبا أو في مسجد أو في صالة رياضة أو في متنزه، لكن ستعتقل كل ما يثير الشبهات كمتعاطي المخدرات أو المتلبسين في قضايا فساد.
وحتى لو قدم المخرج حجة مفادها أن الدولة تقنن زراعة الحشيش فلا يمكن اعتقال كل من يتعاطاه. هذه كلها كليشيهات لأن الفشلة دائما يلومون الدولة في كل شيء يحصل لهم رغم أنهم السبب الرئيسي في مستواهم المعيشي والفكري وهذا جانب لم يذكره الفيلم.
ويبرز مجمل تكوين اللقطات العديد من المشاهد التي تعكس علاقات اجتماعية معقدة ومتعثرة، ولكن في إطار ضيق ومحدود يجعلها تتأرجح بين التناقضات والصراعات الداخلية دون توفير عمق نفسي كافٍ للشخصيات، وهذا النهج المباشر في الطرح يعرقل جوهر الرسالة النقدية التي يشتغل عليها المخرج.
يستخدم المخرج هشام العسري أسلوبًا سينمائيًا مشوشا وصاخبا يفتقر إلى التوازن بين الجمالية البصرية والتعبير الفني العميق، حيث طغت الجوانب الصاخبة للموسيقى على التصوير الخلفي مجانيا، ما يجعل ترتيب المشاهد واللقطات تبدو كتشويش بصري استفزازي لا تقدم رؤية جديدة أو مبتكرة في التناول السينمائي للموضوعات الاجتماعية الحساسة، وأيضا بسبب الكليشيهات والخطاب السينمائي المباشر الذي ينتج عنه نقد شديد لاقتصاد الدولة ودوره كسبب في مشاكل المدمنين على المخدرات والأشخاص الذين دائما ما ينسبون مشاكلهم إلى العالم من حولهم.
ويبرز الفيلم نقدًا حادًا للسياسة المغربية من خلال تصوير باهت لدوريات الشرطة، ينعدم فيه العمق والتفاصيل اللازمة لإيصال رسالة سينمائية فعالة ومؤثرة تجعل العمل يبدو كتجربة فنية استعراضية بلا قيمة مضافة في التحليل الاجتماعي والسياسي. وغالبًا ما تستخدم الكليشيهات في السينما لوصف أفكار بسيطة بطريقة مثيرة، مع التركيز على المقارنات المبالغ فيها أو التأثير المبالغ فيه، وتُستلهم الكليشيهات غالبًا من التجارب اليومية، ويمكن أن تكون فعالة إذا استُخدمت بحذر لتعزيز المشاعر والرسائل التي يرسلها الفيلم.
ويُعتبر استخدام الكليشيهات بشكل مفرط في سيناريو فيلم “مروكية حارة” مؤشرًا على نقص الخبرة أو قلة الإبداع، حيث يفقد الفيلم فرصة التميز والتفرد في عرض تجربة جديدة ومثيرة كسينما المؤلف التي يطبّل لها البعض. كما أن استغلال أغاني جماهير كرة القدم لاستقطاب الشباب بَرز بشكل سطحي ولم يخدم مشاهد الفيلم، حتى لو كانت الكلمات تعبر عن الواقع الذي يعيشه بعض الأفراد في المجتمع.
أما الإيقاع الموسيقي الصاخب فهو يناسب أفلام الأكشن بشكل أساسي، وليس كاميرا تتجول في الأزقة والشوارع التي يقطنها مدمنو الحشيش وبائعات الهوى، فما ذنب الأساتذة في فشل التلاميذ إذا كانوا غير مجتهدين؟ وما ذنب الإسلام والديانات إذا كانت النفوس السيئة للأفراد تميل إلى الانحراف؟ وما ذنب الأطفال إذا كان آباؤهم وأمهاتهم خونة؟ ومن هنا، فمن الواجب على كُتاب السيناريو المتمردين أن ينظروا في المرآة أولاً قبل أن يشرعوا في قصف العالم بكليشيهات يعاني منها العالم جميعا وليس المجتمع المغربي وحده، فإذا كانت هذه هي سينما المؤلف حقا، فأين تكمن قيمة النص الأدبية التي ترتكز أساسا على الإخلاص في سرد الأحداث بدل إقحام العديد من المشاهد واللقطات التجارية.