"مرحبا ثقافة" عبارة ساخرة إلى حد التجريح والإيذاء والإهانة

فعل السخرية من الثقافة والمثقفين هو ببساطة شديدة سخرية من الذات والآخر ومن الماضي والحاضر والمستقبل وإعلان على الإفلاس.
الأحد 2022/12/18
أي دور للمثقف اليوم (لوحة للفنان خالد تكريتي)

“مرحبا ثقافة” عبارة دأبت أن تقولها العامة، كلما أرادت السخرية من الثقافة والمثقفين في العالم العربي.

ترى، ما الذي جعل المعرفة وأهلها يصلان إلى هذا الدرك الأسفل لدى العامة، بعد أن كانا عنوانا للوجاهة والوقار.

الحقيقة أن هذا الأمر ليس جديدا، لا في المجتمعات العربية، ولا حتى في العالم الأوروبي الذي يظنه البعض من النخب الثقافية واحة أزلية للاحتفاء بالثقافة والمثقفين.

كل ما في الأمر أن التطور التاريخي والحضاري الذي مرت به المجتمعات الغربية على إثر الثورات الثقافية، فرض نوعا من الذائقة العامة التي تقدر دور الثقافة والمثقفين في الحياة العامة.

وبناء على ما تقدم، لا يمكن للمرء أن يدين بالاعتراف لمن ليس له أي تأثير في حياته اليومية ومسيرته المعيشية.

كيف لي أن أحترم من لا يحترمني، وكيف لي أن أقيم حسابا لمن لا يقيم لي أي حساب. هو منطق واضح وصريح إذن، فلماذا نستهجن حالة نعرف أسبابها ونتوقع نتائجها؟

أول أسباب ازدراء المثقفين في العالم العربي من طرف مجتمعاتهم، هو أنهم يزدرون شعوبهم، بمنتهى البساطة، ولا يقيمون لها أي حساب، فكيف تنتظر الاحترام ممن لا نكن لهم الاحترام.

في كل بلدان العالم المتحضر ينحني الجميع إلى كلمة كاتب وموسيقي وفنان وراقص ونحات، إلا في بلداننا العربية التي ارتبط الجواب فيها بالعبارة الساخرة "الشغل مش عيب"

هذا ما تفسره الجدليات التاريخية ويفضي إليه المنطق المتوقع والمنتظر، أما عن الأسباب الأخرى فكثيرة ومتوقعة، وأهمها تلك المساحة الشاسعة بين المثقف وجمهوره في عالمنا العربي.

كلمة “جمهور” هنا، ليست على تلك الدقة التي نفترضها في مناقشة هذه القضية الشائكة، ذلك أن لا “عقد مبرم” أصلا، بين طرفين يسميان “مثقف” و”جمهور” سواء كان الأخير من القراء أو المشاهدين أو المستمعين.

كل ما في الأمر أنها علاقة هلامية غير محددة المعالم، فلا المثقف يعرّف بنفسه كمثقف ولا الجمهور يعرّف نفسه كجمهور أي أن لا علاقة أصلا، بين الطرفين المفترضين.

أما الأخطر من ذلك كله، هو أن المثقف العربي ثمرة مجموعة هزائم وإحباطات اجتماعية وسياسية وتاريخية، تبدأ من الأسرة فالمدرسة ثم الجامعة، وسوق العمل الذي ارتبط بالتعليم الذي ارتبط هو بدوره بالثقافة.

المشكلة إذن، هيكلية على مختلف أبعادها المتشابكة، ولا يمكن تجزئتها أو حصرها في مجرد ظاهرة تتلخص في سؤال عائم ومبتور وهو “لماذا تزدري المجتمعات العربية مثقفيها؟”.

القاعدة التي ينطلق منها الناس في كل زمان ومكان، تتمثل في أن قيمة المواقع والتموضعات تبدأ بمدى ما يمكن أن تقدمه لأصحابها من فائدة.. والفوائد مادية معيشية أولا وقبل كل شيء.

وفي هذا الصدد، يقول الكاتب التونسي الأسعد بن حسين، إن ما نسمعه من هتافات في مدارج كرة القدم من استبسال في الدفاع عن الأندية واللاعبين في الملاعب التي تتسع طاقة استيعابها لمئات ما تستوعبه المسارح وقاعات السينما وصالات الفن التشكيلي ومعارض الكتاب لهو كفيل بتفسير الظاهرة، ظاهرة ازدراء المثقفين.

إن الشعار الذي يرفعه تلاميذ المدارس الابتدائية في تونس مثلا، ويرددونه بمنتهى الشعور بالإحباط، نهاية كل عام دراسي يقول بالعامية المحلية “تقرأ وإلا ما تقراش، المستقبل ما ثماش” أي إن درست أو لم تدرس فلا مستقبل لك.

والمقصود بـ”المستقبل” هنا هو تأمين حياة معيشية مضمونة، لذلك ما فائدة أي منجز إبداعي أمام أي “منجز كروي” على سبيل المثال؟

ماذا عسى أن تفعل المنجزات الثقافية أمام المنجزات الكروية، وأمام وضع معيشي صعب؟ وماذا يمكن أن يقدمه مثقف من وزن مادي وتأثير اجتماعي أمام لاعب كرة قدم أو ثري حتى وإن كان مهربا أو تاجر مخدرات؟

تلك هي الحقيقة المرة التي جعلت شباب اليوم ينقطعون عن الدراسة ويمتطون المراكب المتهالكة حلما بالثراء وطمعا في حياة رغيدة وآمنة.

أول أسباب ازدراء المثقفين في العالم العربي من طرف مجتمعاتهم، هو أنهم يزدرون شعوبهم، بمنتهى البساطة، ولا يقيمون لها أي حساب، فكيف تنتظر الاحترام ممن لا نكن لهم الاحترام

هذا ما عدا الحريات المفقودة والأفواه المكممة عن الأكل والكلام في عدد كبير من دول العالم العربي، فعن أي ثقافة تتكلمون يا معشر الساكتين عن الحقيقة الصادمة.

المثقفون أنفسهم، ركبوا زوارق الموت في عدد غير قليل من البلدان العربية، ومنهم من تخلى عن حلمه الإبداعي للعمل كأجير مطعم أو عامل فرن أو حارس بناية. أو حتى كتب واشتغل ضد قناعاته.

“مرحبا ثقافة” عبارة ساخرة إلى حد التجريح والإيذاء والإهانة، نسمعها كل يوم في المقاهي والشوارع وعلى ألسنة أجهزة الأمن وفي المطارات، سوف يتلقفها الأطفال ويتوارثونها كحصيلة معركة خاسرة خاضها آباؤهم في حرب ضد الفقر والخصاصة.

الآن، وحين نبدي شديد استغرابنا وكامل استيائنا من سخرية مجتمع كامل من الثقافة والمثقفين، لا بد أن نتذكر أن من تسبب في هذه الهزيمة المشينة، هو عوامل أكثر من قدرات الثقافة المجتمع، وحتى السياسة.

فعل السخرية من الثقافة والمثقفين، هو ببساطة شديدة، سخرية من الذات والآخر، الماضي والحاضر والمستقبل.. هو إعلان للإفلاس من مختلف جوانبه و”مانيفست” لسيادة العبث والفراغ.

هو استهزاء موجع بالرهانات والسياسات الثقافية والاجتماعية، واعتراف صريح بأن لا مستقبل للثقافة في بلادنا غير للحلول الفردية ولغة “دبّر راسك”.

في كل بلدان العالم المتحضر ينحني الجميع إلى كلمة كاتب وموسيقي وفنان وراقص ونحات، إلا في بلداننا العربية التي ارتبط الجواب فيها بالعبارة الساخرة “الشغل مش عيب”.

ثمة أمر آخر ينبغي عدم إغفاله وهو أن المثقف نفسه، يسخر من ذاته قائلا “مرحبا ثقافة”، وكأنه يكشّر أمام مرآة، وذلك لشيء اسمه عدم الثقة في الذات.

وإذا فقدت النخب الثقافية ثقتها في ذواتها، فعلى الدنيا السلام، ذلك أن لا أحد أقدر من تقزيم المثقف وإهانته غير المثقف.

10