مراهقون فرنسيون يكتشفون استحالة تجنب مصير الآباء

فاز الكاتب نيكولا ماتيو، الأربعاء، بجائزة غونكور أعرق المكافآت الأدبية في الأوساط الفرنكوفونية عن روايته “أبناؤهم من بعدهم” التي تتناول فترة المراهقة بنفس ملحمي سياسي واجتماعي. ويأتي فوز ماتيو بالجائزة الفرنسية العريقة على عكس توقعات النقاد الفرنسيين، الذين رجحوا أن يتوج دافيد ديوب.
كانت كل التوقعات تتنبأ بفوز السنغالي دافيد ديوب بجائزة غونكور لهذا العام عن روايته “شقيق الروح”، فقد رشحها نحو عشرين محررا ثقافيا في كبريات وسائل الإعلام، وأثنى عليها الطاهر بن جلون، عضو أكاديمية غونكور، في مقالة بمجلة لوبوان واصفا إياها بكونها رواية ممتازة بكل المقاييس، ولكنها أسندت في النهاية إلى نيكولا ماتيو عن روايته “أبناؤهم من بعدهم”، التي استبعدها بعضهم ليس لقيمتها، بل لأنها صادرة عن “آكت سود”، الدار التي سبق أن فاز أحد كتابها هو إريك فويار عن رواية “جدول الأعمال” في دورة العام الماضي.
حكاية واقعية
في رواية “أبناؤهم من بعدهم”، عاد بنا نيكولا ماتيو إلى الرواية الواقعية في مفهومها البسيط: “حكاية جيدة تروى بأسلوب جيد”، شرط أن يكون الكاتب حكّاء ماهرا، متملّكا لأدوات فنه. وماتيو، برغم صغر سنه (40 عاما) تمرس بفن الحكي في رواية أولى، من الجنس البوليسي، الذي يتطلب قدرة على رصد الأحداث وربطها بعضها ببعض، والتنبه لأدق التفاصيل، وتخير حبكة مشوقة تتنامى حدّ الذروة قبل أن تفضي إلى لحظة الانفراج. وقد استفاد منها في صياغة نص يصور واقعا مأزوما، واقع مناطق الظل التي تنهشها البطالة والفقر والتهميش، وهي كثيرة في فرنسا بعد اجتياح العولمة، منها ما هو موجود في محافظات الشمال، وبا دو كاليه، بعد إغلاق مناجم الفحم ونقل مصانع السيارات إلى بلدان العالم الثالث وأوروبا الوسطى، ومنها ما يوجد في مقاطعة اللورين، حيث تدور أحداث الرواية، عقب تنازل الدولة عن مصانع الفولاذ والصلب لمستثمرين أجانب.
"أبناؤهم من بعدهم" رواية واقعية ترسم بمهارة فرنسا الأطراف والأحياء الشعبية التي يرين على عماراتها البؤس
واقع يذكّر بما وصفه إميل زولا في “جرمينال”، ولكن الجديد هنا أن الكاتب تناول ذلك الواقع المهمش من خلال ما عاشه بعض المراهقين، خلال التسعينات، ما بين أفول حكم الاشتراكيين (فرنسوا ميتران) ووصول اليمين المعتدل (جاك شيراك) إلى السلطة، في مدينة هايانج بمحافظة موزيل شرقي فرنسا. في واد توقفت أفرانه العالية عن الاشتعال، وظل الناس شاردي اللب والنظرة، عاطلين جلهم أو كلهم عن العمل. الرجال يزجون أوقاتهم في معاقرة الخمر، والنساء، اللاتي ذبلن قبل الوقت، يجهدن في البحث عن أسباب العيش الكريم ما وسعتهن الحيلة. فإذا رجال المدينة بعد أن التهمها الصدأ والبطالة، مطرودون من العمل، أو مطلقون، أو مخدوعون، أو مصابون بالسرطان.
اللعنة الموروثة
يصور الكاتب ما آل إليه آباء هؤلاء المراهقين من عملة الأفران، الذين ما فتئوا يقودون المظاهرات ويعتصمون أمام المصانع، وينخدعون كل مرة بوعود الساسة، الذين يطلون عليهم كالشمس في تلك البقاع الباردة: “أصحاب الياقات الزرقاء لم يعد يحسب لهم حساب. ملاحمهم فقدت موضتها. الناس يسخرون من نقاباتهم المهذارة المستعدة دائما للمصالحة”.
في واقع تلك سماتُه، يتوقف الكاتب عند معيش بعض المراهقين، ويتتبع مسارهم في أصياف أربعة، ما بين 1992 و1998، ذلك العام الذي فازت فيه فرنسا بكأس العالم لكرة القدم، وحيا المجتمع بكل شرائحه ما يصنعه تواشج الأعراق بين البيض والسود والسمر من معجزات أطمعت خلقا كثيرا في مستقبل تتضافر فيه الجهود، دون عرقية أو تمييز أو حيف للقضاء على البطالة وفتح البلاد أحضانها لأبناء الجهات المحرومة وأبناء المهاجرين. فنكتشف سعي أبطال الرواية المراهقين للخروج من تلك المدينة البائسة، حتى لا ينتهوا إلى ما انتهى إليه آباؤهم.
الكاتب تناول الواقع المهمش من خلال ما عاشه بعض المراهقين، ما بين أفول حكم الاشتراكيين وحكم اليمين
أنطوني ابن البروليتاري، وحسين ابن المهاجر العربي، وكليم (تصغيرا لكليمان) ابن الأرملة، وستيف (تصغيرا لستيفاني) المتحدرة من أسرة ميسورة الحال. كلهم يتطلعون إلى وضع مغاير. أنطوني يحلم بستيف لعله يغير وضعه من حال إلى حال بمصاهرة أسرة أرقى، وستيف تصده لأنها تكره “الحالات الاجتماعية” وتدرك أن العالم يملكه أوائل الفصل، وكليم يحلم بالالتحاق بالجيش كي يضمن مستقبله. أما حسين فغايته أن يكف عن أعمال الانحراف التافهة التي كان يأتيها وينتقل إلى اللصوصية الكبرى، ليصبح زعيم عصابة مهيب الجانب، لا يحمل لعيشه همّا.
وكسائر مراهقي مدينتهم البائسة، التي تتوسطها بحيرة قذرة، وتشوب جدرانها الرمادية المقشرة الطلاء كتابات ناقمة، يقضي أولئك المراهقون الوقت في السكر والعربدة، وتعاطي الحشيش، والاستماع إلى أغاني نيرفانا، وتبادل العنف مع مراهقين آخرين، ومغازلة البنات، والحلم بالهروب من واقع موبوء، والهجرة إلى مكان أرحب… ولكنهم يكتشفون بمنتهى المرارة أن من ينفذ منهم من أسلاك الحياة الشائكة التي تطوقهم هم أولئك الذين ينتمون إلى وسط اجتماعي راق، أما هم فلم يغادروا الحلقة المفرغة التي وجدوا عليها آباءهم، وكأنهم يرثون لعنة.
“أبناؤهم من بعدهم” رواية واقعية ترسم بدقة ومهارة فرنسا الأطراف والأحياء الشعبية التي يرين على عماراتها البؤس والقذارة، ويتراوح في جنباتها احتضار العالم العمالي، وتنقل بحساسية معيش فئات مجتمعية مهملة أو منسية، سحقتها مقتضيات العولمة. وكاتبها نيكولا ماتيو، الذي ينتمي إلى وسط متواضع هو أيضا، ويعترف بأنه عرف الخصاصة وأعمال التعويض المؤقتة في بلدته بمقاطعة الفُوجْ، يدين زيف الشعارات التي يرفعها الساسة، بيمينهم ويسارهم، عن تكافؤ الفرص وتصالح الطبقات الاجتماعية. حتى نهائي فرنسا البرازيل، الذي بشر بإمكانية عيش كافة مكونات فرنسا عيشة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات، آل إلى سراب خادع.