مذكرات الساسة في مصر: قليل من التواضع كثير من الغرور

تحت عنوان “الرواية رحلة الزمان والمكان”، أصدر السياسي المصري وأحد أبرز الوجوه الفاعلة في فترة الرئيس الراحل حسني مبارك مصطفى الفقي، مذكراته وشهاداته التي تكشف خبايا الحكم في تلك الفترة، استعرض فيها علاقاته الوطيدة بالسلطة آنذاك وخبراته التي راكمها في سنوات طويلة في عالم السياسة.
القاهرة - من المهم أن يكتب الساسة المصريون مذكراتهم وشهاداتهم في الشأن العام، خاصة ممن اقتربوا كثيرا من صناعة القرار، لأن هناك التباسا في بعض الوقائع أو غموضا انتابها، لكن من المهم البعد عن تحويلها إلى وسيلة لتبييض الوجوه والساحات، أخلاقيا وسياسيا، وتجنب عرض البطولات سواء أكانت حقيقية أم زائفة.
فغالبية من يتناولون كواليس سياسية معينة اطلعوا عليها وحدهم أو كانوا شركاء فيها، ما يفرض التجرد والميل إلى الموضوعية لأقصى درجة، إذا حوت أسماء وشهود عيان رحلوا أو عزفوا عن الرد متى وجدوا خطأ.
وشهدت الفترة الماضية صدور ثلاث مذكرات استدعت مراجعات مهنية، حيث تطرقت إلى ملفات حيوية، إحداها لعمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر سابقا، والثانية للسفير أحمد أبوالغيط الذي خلفه في المنصبين السابقين، والثالثة لمدير مكتبة الإسكندرية حاليا وسكرتير الرئيس المصري الراحل حسني مبارك للمعلومات والمتابعة مصطفى الفقي، والتي صدرت مؤخرا، وكشف فيها عن جانب معتبر من خفايا إدارة الحكم في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك.
وتجتمع المذكرات الثلاث حول سمة رئيسية، عنوانها القليل من التواضع والكثير من الغرور، ولا أعلم هل هو حقيقة أم عدم توفيق في السرد، وربما تكون هذه صفة يلتقي عندها الدبلوماسيون عموما، فالشخصيات الثلاث تنتمي إلى مدرسة وزارة الخارجية المصرية، وتبوأت مناصب رفيعة، اثنان منها شغلا منصب وزير الخارجية، والثالث عمل مساعدا بها، ما يصبغ منطقية على الاستنتاج السابق، ولا يخلو من استثناءات.
شغف المذكرات

في مذكراته "الرواية.. رحلة الزمان والمكان"، حكايات شيقة عن علاقة مصطفى الفقي بالرئيس الراحل حسني مبارك، ونوادر عن الثقة المفرطة التي أولاها له، منذ عمله في القصر الرئاسي من 1983 وحتى مغادرته له في أكتوبر 1990
ينصب الحديث هنا عن مذكرات مصطفى الفقي التي اتخذ لها عنوانا فرعيا، “الرواية.. رحلة الزمان والمكان”، وصدرت عن الدار المصرية اللبنانية في بداية العام الحالي، لذلك فهي الأكثر طزاجة من الناحية الزمنية، والأقل غرورا من الناحية الشخصية، وحوت عرضا شيقا، بحكم شغف صاحبها بالكتابة وفهم لمزاج الرأي العام.
فسر الفصل الأول “سنوات النشأة من القرية إلى الجامعة” جزءا من التكوين الثقافي والاجتماعي للفقي، ما سهل على القارئ فهم مفاتيح شخصيته لاحقا، وهو جزء كان ضروريا كي يتمكن من عرفوه عن قرب أو بعد من استيعاب تطورات حياته المهنية، التي كانت منفتحة على تيارات مختلفة وثقافات ثرية.
ويشغل الرجل حيزا من اهتمام الإعلام في مصر، وإطلالاته المكتوبة والمرئية لا تنقطع حتى الآن، وهو الدكتور والمفكر والمثقف والكاتب والسياسي الطموح، ولا يزال يثير الحيرة لدى البعض وعدم القدرة على فهمه بسهولة، فقد يبدو قريبا من السلطة وبعيدا عنها أيضا، كذلك حاله مع المعارضة.
يتقمص في أوقات كثيرة دور الناصح الأمين للطرفين، لكن الأولى (السلطة) لا تقدره كما يرغب ولا تستمع إليه كما يحب، والثانية (المعارضة) باتت خاوية على عروشها وغير عابئة بتحليلاته، ما جعله يلجأ إلى الحديث في قضايا خارجية متعددة، ويقوم بالتنظير السياسي حول آليات حل الأزمات الإقليمية، إيثارا للسلامة، وضمانا للحضور، فأشد ما يقلقه الغياب عن الأضواء.
حفلت المذكرات بقصص وحكايات متنوعة عن مسيرته المهنية وبعثاته الخارجية، ومعارفه وخبراته الواسعة، والتي أراد صاحبها أنه يوحي بين السطور بأنه موسوعي الثقافة والخبرات، وولد ليكون زعيما سياسيا، لكنه أخفق في تحقيق هذا الهدف، ولا أعرف هل بسبب عيوب في أدائه، أم عدم فهم ممن بيدهم الأمر والنهي.
الغموض البناء
منحه الغموض البناء جانبا من الزخم، وكان عليه وبالا أحيانا، فالمواقف البينية، والتي تمسك العصا من المنتصف يمكن أن تفيد صاحبها مؤقتا، لكنها ربما تتحول في لحظات حاسمة إلى وبال عليه، باعتبار صاحبها “زئبقيا” أو غير مضمون من الطرفين.
رغم المزايا التي حصل عليها والمناصب التي تولاها وكشفتها مذكراته، يعتقد الفقي أنه ينتمي إلى الجيل المسروق أو الطابق المسحور، وكتب عن ذلك مقالا أورد فيه، “قالوا لنا في البداية إنكم ما زلتم صغار السن وأمامكم المستقبل، وبعد ذلك بسنوات قليلة قالوا لنا إنكم تغادرون مرحلة الشباب وقد أصبحتم كبارا، فدعوا الفرص لغيركم، لذلك لم يقف المصعد عند الطابق الذي يقيم فيه بعضنا، لينتهي الأمر بذلك النفر إلى التركيز على الفكر والقلم والاتجاه نحو العمل العام”.
قطر والسودان عارضتا ترشيح مصطفى الفقي لمنصب الأمانة العامة للجامعة العربية مسايرة للإخوان وانحيازا للثورة التي أسقطت نظام مبارك
يريد الرجل أن يقول إنه لم يحصل على ما يستحق، ولم ينل من التكريم ما يتناسب مع مؤهلاته، بينما يحسده الكثيرون، لأنه ظل جزءا من السلطة في عهد مبارك لسنوات طويلة، وعندما خرج من المنصب الرسمي في وزارة الخارجية أو مؤسسة رئاسة الجمهورية لم يكن بعيدا عنهما، وحصل على مكافآت يعتبرها البعض سخية.
حاول الفقي القفز على صفة مواقفه المطاطية عند حديثه عن كيف رآه الرئيس الراحل حسني مبارك، قائلا “الرئيس مبارك كان يضع دائما فيتو على التحاقي بمناصب تنفيذية معينة بدعوى أن ولائي لنظامه غير مضمون، وأنني أغازل المعارضة، ومنفتح في الحديث وغير كتوم من وجهة نظره”، في إشارة موحية إلى استقلاله السياسي.
أتيحت لي فرصة للتعامل مع الفقي عندما كنت مشرفا على صفحات الرأي بجريدة الأهرام، خلال الفترة من أبريل 2012 إلى سبتمبر 2017، وكان يكتب مقالا كل أسبوعين، يوم الثلاثاء، ثم تحول إلى الكتابة أسبوعيا، ما فرض الاحتكاك المباشر على كل منا، وحدثت مواقف كثيرة لا أريد التوقف عندها، فهذا مقال عن مذكراته التي استمتعت بقراءتها وفككت ألغازا احترت فيها.
يحرص الفقي على ألا تغضب منه السلطة الحاكمة، سواء كان جزءا منها أو خارجها، وظهر هذا الأمر في مذكراته التي تجاوزت 500 صفحة، مصحوبة بملحق صور شخصية وعامة له، وكشف فيها جوانب من المحن القليلة التي مر بها وكيف كان حاله، فهو رجل لا يتصنع الشجاعة، على حد قوله.
بين السلطة والمعارضة
في إحدى المرات لم ينشر مقاله بجريدة الأهرام، فقد جاءني عبر البريد متأخرا، وعندما تصفح موقع الصحيفة الإلكتروني، وكان الموقع وقتها يعمل بانتظام وكفاءة، عكس الآن، ولم يجده فاتصل بي هاتفيا نحو الساعة الثانية والنصف صباح الثلاثاء، يوم نشر المقال، ويبدو عليه الانزعاج التام، للحصول على إجابة لعدم نشر المقال في موعده، وأخبرني بلباقة أنه خارج مصر.
كان من الممكن أن يمر الموقف عاديا ولا داعي لسرده، لكن اهتمام الرجل بمعرفة سبب عدم النشر كان مبالغا فيه، فأجبته أنه أرسل المقال في وقت متأخر وصفحات الرأي غير إخبارية، ويجب إنجازها في وقت مبكر، وألقى اللوم على سكرتيرته، ثم تساءل في خبث “ألا يوجد منع سياسي للمقال؟”، فأجبته بأن هذا تصرف فني بحت ولا علاقة له بأي جهة، فارتاح كثيرا، فما شغله الخوف من وجود تعليمات بوقف مقاله.
يعتقد البعض من السياسيين أن الكتابة بصحيفة رسمية مثل الأهرام، تعني الرضاء عنهم من السلطة، والحجب يعني الغضب منهم، وهذه مقولة ليست دقيقة بالمرة، لكن هناك من يروّجون لها على نطاق واسع، ويعتقدون في صحتها.
الفقي حرص على ألا تغضب منه السلطة الحاكمة، سواء كان جزءا منها أو خارجها
في مذكراته “الرواية.. رحلة الزمان والمكان”، حكايات شيقة عن علاقته بالرئيس مبارك، ونوادر عن الثقة المفرطة التي أولاها له، منذ عمله في القصر الرئاسي من 1983 وحتى غادره في أكتوبر 1990، فالفقي معروف بأنه قوي الذاكرة وحاضر البديهة، ويملي ما يكتبه غالبا على سكرتيرته، هكذا أخبرني، ويملك حسا سياسيا ساخرا جعله مميزا عن الكثير من زملائه.
تعمد الفقي أن يقول رأيه في مبارك بصورة رمادية، لا تفهم منها هل كان مقتنعا به أم ساخطا عليه، ربما لأنه بعد سقوط نظامه دخل في مشادات مع نجليه علاء وجمال مبارك، ووجهت إليه اتهامات تنال من سمعته السياسية.
وقال عن مبارك في مذكراته “كنت أحب الشخص، ولكن لم أكن شديد الاقتناع بالرئيس، وذلك بسبب إهدار الفرص، وتجريف الكفاءات، وغياب الرؤية، مع ذلك لم أسمح لنفسي بعد انتهاء حكمه بالتطاول عليه، لأنه لا يستحق ذلك، فقد كان ودودا معي في بعض المواقف، وظالما في بعضها الآخر، وتلك هي طبيعة البشر التي لا تستقيم على حال واحد”.
عندما قامت ثورة 25 يناير 2011، وسقط على إثرها نظام مبارك، اعتقد البعض أن الفقي انتهى سياسيا، غير أن مرونة الرجل جعلته يقفز من السفينة بنعومة، ويصبح مرشحا لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، وهو حلم رآه قريبا منه.
وبدا عليه التأثر واضحا، حيث تراجعت مصر عن ترشيحه رسميا للمنصب عام 2011، خلفا لعمرو موسى، ووقتها كان المجلس العسكري يدير البلاد، ملمحا لعدم دعم موسى له، ومنتقدا رفض تأييد نبيل العربي أيضا، والذي كان وزير خارجية مصر في ذلك الوقت، ثم حل أمينا عاما للجامعة العربية بديلا للفقي.
وفي الوقت الذي أشاد فيه بموقف السعودية، انتقد موقف كل من قطر والسودان، وقال إنهما اعترضا بشدة عليه، ما أدى إلى سحب ترشيحه، واستبداله بنبيل العربي، ولم يذكر تفاصيل المعركة، ترفعا ورغبة في عدم الخوض في التفاصيل.
عالجت الكثير من وسائل الإعلام في حينه هذه المعركة التي شهدتها أروقة الجامعة العربية، لأن الدوحة والخرطوم أرادتا مسايرة صعود جماعة الإخوان والانحياز للثورة التي أسقطت نظام مبارك، باعتبار أن الفقي أحد رموز هذا النظام ولم تفلح محاولاته الكثيرة في التنصل من أخطائه.