مذبحة الفلاسفة رواية التاريخ الذهبي للعرب في بلاد الشام

ظاهرة كتابة التاريخ روائيا، ليست بالأمر الجديد، وليست بالأمر السهل أيضا، فقد يخدع التاريخ الروائي، فيخلّ بفنّية الرواية، ومهما يكن فقراءة التاريخ روائيّا، من حسن الحظ مرفوضة من الناحية العلمية، لكنها وسيلة ممتازة، لنشر المعرفة ولو بحدها الأدنى بين الناس، ممن تديّنوا بمقولة “التاريخ كله كذب” فأشاحوا بأبصارهم وقلوبهم عن قراءة كتب التاريخ حتى المبنية على النقوش والحفريات واستقراء الأحداث، عبر المنجز الثقافي وتطوره، وتطور اللغات والعقائد.
السبت 2016/05/14
الكاتب يتحدث بإيجابية عن العرب

مع نكوص القومية العربية، والصعود الصاروخي للأقليات والهويات الضيقة، أصبحت الروايات التي تتناول الهويات الضيقة الأكثر انتشارا ومنافسة على الجوائز، ونادرا ما قرأنا عن رواية تتناول العرب في العراق أو بلاد الشام أو مصر قبل الإسلام، وهذا ما يمنح رواية “مذبحة الفلاسفة” للكاتب والباحث السوري تيسير خلف سبقا في موضوعها، وجرأة عرف بها الكاتب، ففي العقدين الأخيرين، أصبح من يتحدث بإيجابية عن العرب، ويثبت أنهم أدّوا دورا واضحا قبل الإسلام بقرون، في منطقة أعالي دجلة والفرات وسواحل البحر المتوسط، أي ضمن العراق وبلاد الشام وأجزاء من تركيا، مثله مثل القابض على الجمر.

كعراقي أتابع الهستيريا التي اجتاحت النخب العراقية في معاداة العروبة، مع تساهل مخز أمام سرديات مبنية على نفي وإلغاء وإقصاء بناة العراق الأكثر وضوحا وتأثيرا، أي العرب وما يمثله وجودهم السابق للميلاد بقرون، على ضفّتي نهري دجلة والفرات وروافدهما وبقية الأنهار الأخرى إن كانت في العراق أو المناطق الشمالية والغربية من الهلال الخصيب. هذا الوجود الذي منح العراق والمنطقة الغالبية العظمى من تاريخها الكتابي، وبالتالي هويتها، وأعطى الأولوية للعراق في المنجز التدويني، مثلما منح بلاد الشام موقعا يضاهي العراق ولا سيما في النقوش العربية المكتشفة.

في آخر الرواية، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يشير الكاتب إلى أن عمله استفاد من مراجع كثيرة ربما أهمها: تاريخ شعب أوغسطا اللاتيني، وحياة أفلوطين لبورفيريوس، وحياة إزيدور لدماسكيوس، والإلهة السورية للوقيانوس، وتاريخ الرسل والملوك للطبري، وهذه أمانة علمية، دونتها روحية الباحث تيسير خلف ودقته، حتى في عمل روائيّ مبنيّ على المخيلة أولا، فهي عمل روائيّ أولا وأخيرا.

أعترف بأنني لست “مدمنا على قراءة الروايات” مثلما كان السياب، الذي تحولت جملته-تصريحه، إلى إيقونة لدى النخب الثقافية، لكن مشروعه-الحلم بقراءة تاريخ الفلسفة لم يجد هوى عند غالبية المثقفين ليقلدوه، لكنني مدمن على قراءة حفريات المعرفة في التاريخ واللغات والعقائد والعادات والتقاليد، وهو ما يجعل ما تطرقت إليه الرواية في موضوعها، ليس غريبا ولا جديدا تماما عني، وأغلب معلوماتها قرأتها في كتب وبحوث كثيرة، لجواد علي وصالح أحمد العلي ونقولا زيادة وعرفان شهيد والبير أبونا وآخرين ومن ضمنهم الروائي نفسه.

قرأت أكثر من كتاب للكاتب تيسير خلف، ولأن هذه الرواية، تتناول المسكوت عنه في الحراك الثقافي اليوم، ويقف كاتبها بكل شجاعة، موضحا أن عرب الشمال هم سكان أصليّون وفاعلون ضمن نسيج سُكّان الهلال الخصيب (أذكر هذا المصطلح لأنه يشمل مناطق شاسعة من تركيا ومناطق من إيران اليوم) ومما لا شكّ فيه أن عراقة العرب في هذه المنطقة، لم تساهم في بناء ممالك عربية فقط، بل ساهمت مساهمة بالغة الأثر في بناء ما اصطلح عليه الحضارة العربية الإسلامية، إن فترة ما قبل الإسلام، هي فترة تأسيسية لعصرهم الذهبيّ.

أكثر ما استوقفني في الرواية هو شخصية قصي بن كلاب، التي أتمنى أن نقرأ بحوثا علمية رصينة عن هذه الشخصية التي لم يتم تناولها بما هي عليه، ليس في السرديات العربية الإسلامية سابقا ومَن يحذو حذوها من الكُتّاب الإسلاميين عقيدة، بل ممن خلعوا العقيدة وكتبوا ولكنهم في الحقيقة، ارتدوا سلاحا يحارب العقيدة، لا ثوب العلم النقيّ، المترفع عن الدسائس والعقائد والأيديولوجيات.

أسلوب الرواية، وجملة الكاتب الرصينة والمنسابة بتدفقها، يغريان بالقراءة ومتابعة الأحداث، لا سيما وأنني ممن تُشغلهم شخصية قصي بن كلاب، وإن كان عبر عمل إبداعي، هذا العبقري الفذ، الذي مثله مثل قومه لم ينصفه كُتّاب التاريخ، فلقد أرسوا افتراء حسبوه رفعة للإسلام، ألا وهو لصق الجهل والبداوة والخشونة والتصحر بالعرب، وأما قصي فليس سوى جدّ أعلى لمؤسس الإسلام، لا أكثر، وكان الكاتب مُحقّا حين أشار إلى نجاح المؤرخين العباسيين في تهميش بلاد الشام، وإن كنت أرى أن النبط عرب قبل الإسلام، وسريان بعده بحسب السردية الإسلامية، والحطّ من النبط، المعنيّون به السريان، ولا يعني هذا تناقضا مع ما ذكرت أعلاه في الحط من عرب ما قبل الإسلام، ظنّا أنهم يرفعون من قيمة وأهمية الدين الإسلامي.

17