لماذا يعجب البعض بصورة الطاغية

للطغاة صورتان، صورة داخلية “محلية”، تتضح فيها ملامحهم الحقيقية، وأعمالهم الواقعية، حيث يخرج الدم المتخثر من أفواههم، وفي نظراتهم آهات الملايين من شعبهم. ملأى ياقاتهم بالعويل والنحيب، وعلى صدورهم نياشين الموت والخراب والدمار. خطبهم الحماسية، إيذان بموت أكبر للبلاد، وأرامل أكثر، ويتامى وأمهات ثكالى تعج بهم البيوت والشوارع وأحاديث الناس، وفقر يتشظى إلى طوابير من الحرمان الذي تتخاذل الأخلاق أمامه، ويكشّر، من جرّائه، الجوع عن أنيابه.
يزرع الطاغية، في صورته الداخلية – المحلية، أخلاقيات جديدة في شعبه، كالخوف والنفاق والرعب، وثقافة الركون إلى السلامة، حتى أن ضحاياه الناجين وأقاربهم، لا يغادرهم ما زرعه فيهم وما عانوه وشهدوه. ولقساوة التعذيب في المعتقلات وجحيم الزنازين، صاروا يتذوقون طعمه عبر السماع أيضا، وإن غادروا البلاد ووصلوا إلى أبعد نقطة في العالم، سيرافقهم الخوف والرعب حتى بعد زوال الطاغية بعقود زمنية، وبينهم وبين بلادهم الآلاف من الأميال.
مصادرة الهوية
◄ صورة الطاغية عند شعبه مناقضة لصورته عند محبيه والمعجبين به أساسا ممن وجدوا الحظوة والدعم منه
حين وصلت إلى زي الجديدة “نيوزلندا”، سنة 1997 للميلاد، تذكرت قولا لبرزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين، حين كان في الثمانينات رئيس جهاز المخابرات العراقية، فقد تباهى بأنه بنى أقوى جهاز مخابرات، جعل العراقي المعارض، الذي يريد انتقاد نظام صدام حسين، حتى لو كان جالسا في مقهى في “نيوزلندا”، “يتلفّت يمينا ويسارا قبل أن يبدأ بالكلام.”
شخصيا عانيت من كابوس كان يزورني كل بضع ليال، حين كنت في عمّان، لكن هذا الكابوس ظل يزورني حتى بعد وصولي إلى البلد الذي ذكره رئيس مخابرات نظام صدام حسين، وإن تباطأ بالزيارة، لكنه لم ينقطع تماما حتى رأيت في صحيفة “ذي دومنيون بوست” صورة كبيرة لصدام حسين مكبلا بالسلاسل.
الطاغية، بعبارة مختصرة جدا “يقتل روح المواطنة”، مثلما “يقتل روح المبادرة” التي هي صفة من صفات الشجاع، لأن الخوف يعشش في نفوس الناس، خشية من غضب السلطات، ويمهد للخيانات والسرقات والفساد الإداري. منْ وصف بأنه “هبة السماء لشعبه”، “ولن تنجب حرةٌ مثله”، يمزق الهوية الجامعة، ويكون سببا في بروز سرديات الهويات الضيقة المتخمة بالمظلومية والأمجاد والتاريخ العريق الجميل الذي يخلو من أيّ شائبة، وإلصاق الشوائب كلها بقومية الطاغية، أو عقيدته، وذلك ردة فعل على استبداد الطاغية بحق شعبه، علما أن الطغاة عدولٌ في طغيانهم بحق شعوبهم، وفيهم ينطبق المثل العربي: الخير يخصّ، والشر يعمّ.

◄ الطاغية، في صورته الداخلية – المحلية، يزرع أخلاقيات جديدة في شعبه، كالخوف والنفاق والرعب، وثقافة الركون إلى السلامة
في البلدان ذات التنوع اللغوي والعقائدي، يرتد الناس إلى هوياتهم الضيقة، ولن تعود الهوية الوطنية تعنيهم، لأن الطاغية صادرها، حين رهن الولاء للوطن بالولاء له، وأصبح اختلاف وجهات النظر خيانة يحاسب عليها القانون، بالتغييب والإعدام، والحط من قيمة الإنسان، وصولا إلى إزهاق الأرواح بعد مرور الجسد بحفلات تعذيب يبارك فيها رجال الأمن لبعضهم بقولهم: “لقد جاهدت جهاد الصحابة.” نعم التلذذ بالتعذيب وابتكار طرق مختلفة تحط من كرامة الإنسان ومن جسده وروحه، بل إن شهادة الوفاة يكتب عليها: “إصبع متعفنة وتم استئصالها،” إمعانا في الطغيان والإقصاء وتدمير ذوي المعدوم.
صورة خارجية
شخصية فذة، شجاعة، كريمة، لا تحيد عن ثوابت الأمة، عادلة، صارمة، بذلت جهودا جبارة لتحقيق الرفاهية لأوطانها وأمتها، لكن المؤامرات الخارجية والداخلية لم تمنحها الفرصة، وكذلك خيانات شعبها المتخاذل الجبان. صورة الطاغية خارج بلاده وعند المستفيدين منه، وهم قلة، صورة وردية، صنعتها الأوهام أو المصالح؛ إذ لا يوجد بين محبي الطاغية، من تضرر منه، من عرف الضرر مباشرة، أي عبر ما تعرّض له شخصيا، أو بشكل غير مباشر تماما، وذلك من خلال ما تعرّض له أحد أفراد أسرته أو المقربين منه.
يشيع الطاغية في صورته الخارجية، الأمل بغد أفضل، وبمقاومة الاستعمار والهيمنة الخارجية، وإبطال مخططات “أعداء الأمة” التاريخيين والجدد، ويضخ الأموال من أجل تثبيت هذه الصورة. والمعجبون بالطاغية، ليس بينهم من تجرّع مراراته، أو من كان، أو أحد أفراد أسرته، عرضة لحفلات سفك الدماء، أو على الأقل للإهانات وهدر الكرامة، ومعاناة المواطن من قساوة الأجهزة الأمنية، التي تغلغلت في البيوت والنفوس، حتى أصبحت الأسر تخشى الحديث، أمام صغارها، في السياسة والتذمر من صعوبة الحياة التي تنعدم فيها الحريات تماما.
◄ الطاغية، بعبارة مختصرة جدا "يقتل روح المواطنة"، مثلما "يقتل روح المبادرة" التي هي صفة من صفات الشجاع، لأن الخوف يعشش في نفوس الناس
المعجبون بالطاغية، لا تهمهم الحقائق العلمية، التي منها أن أكبر الأدلة على فشل كل حاكم “في الأنظمة الجمهورية” وكل حكومة “في الأنظمة الملكية المقيدة بالدستور”، هو انخفاض قيمة العملة، لاسيما حين تنخفض بنسبة مئات المرات عما كانت عليه قبل مجيء “الطاغية”. هم لا يهمهم انهيار الاقتصاد، بل إنه فرصة ثمينة لهم لزيارة بلد “قائد الأمة” الفذ، والتمتع برخص البضائع في الأسواق بالنسبة إليهم.
صورة الطاغية عند شعبه مناقضة لصورته عند محبيه والمعجبين به ممن وجدوا الحظوة والدعم منه، أو من الشعوب الأخرى التي استطاع، بإعلامه وبشراء ذمم بعض مثقفيها، أن يفتنها ببطولاته ومآثره التي لا تعد. ولا يهم انهيار العملة الكارثي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، كذلك لا يهم أن الشعب يدفع ثمن الرصاصات “الطلقات” التي يتم بها قتله من قبل الطاغية، وما تتلقاه عوائل المغضوب عليهم من ملاحقات وفصل من الوظائف، وحرمان من حقوق مدنية كثيرة، وامتلاء المعتقلات بالرافضين للطغيان والاستبداد، ويصبح كل فرد مشروعا مؤجلا للاعتقال أو الإعدام، وعلى المواطن أن يتوخى الحذر والحيطة، لزيادة أيامه بالحياة، وتجنب تنفيذ الإعدام.
لكن هذه المآسي لا يلتفت إليها الجيران وشركاء التاريخ واللغة والدين، لأن ما يهم المنتفعين منهم أنهم يجنون فوائد من كرم الطاغية، حتى لو كانت هذه الفوائد نتيجة للتصديق والإعجاب بأوهام العظمة والبطولات الزائفة، والانتصارات التي جوهرها هزائم شنيعة، أهين بها الجيش.