مدن ذكية.. ولكن ليست فاضلة

24 ساعة فقط خسر العالم خلالها 300 مليار دولار تسبب بها العطل في البنية المعلوماتية الأسبوع الماضي.
الجمعة 2024/07/26
سيناريو متخيل لما يمكن أن نواجهه من مخاطر مستقبلاً

كل شيء يبدو تحت السيطرة في المدن الذكية التي نقطن فيها، ويعتمد سكانها والمسؤولون فيها بشكل كبير على التكنولوجيا لتسيير مرافقها وأمور حياتهم اليومية؛ من المنزل الذي يغادرونه صباحًا للجري أو السير برفقة حيوان أليف، أو لمجرد إلقاء نظرة على النباتات حول المنزل، إلى طائرات دون طيار تقوم بتوصيل طلبات التسوق إلى أصحابها، إلى السيارات ذاتية القيادة التي تصطف على جانبي الطريق مستعدة للانطلاق فور تلقي الأمر، وانتهاءً بالمعاملات البنكية التي أصبحت تتم بشكل كامل عبر تطبيقات الهاتف الذكي.

لا داعي لذكر أن سكان هذه المدن لم يعودوا بحاجة للذهاب إلى العمل إلا نادرًا، فالمكاتب أصبحت جزءًا من الماضي، وكل الأعمال يتم القيام بها من المنزل، لا يُستثنى من ذلك الجراحون والقضاة ومسؤولو الدولة.

لم يخطر في ذهن أحد أن هذه السكينة وهذا الهدوء والانضباط قد يتعرض بين ليلة وضحاها إلى ما يعكر صفوه، مع وجود رقابة على مدار 24 ساعة للتحكم والتأكد من سلامة جميع المهام؛ ما صغر منها وما كبر.

بوكس

فجأة، حدث ما عكر صفو السكينة والانضباط؛ بدأت الأنظمة المعلوماتية في المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى تتوقف عن العمل بشكل غير متوقع. في البداية، ظن الجميع أن الأمر مجرد خلل تقني بسيط، لكن سرعان ما تبين أن الأمر أكبر من ذلك بكثير.

أول المفاجآت كان تعطل الأنظمة المصرفية، مما أدى إلى توقف عمليات السحب والإيداع. لم يتمكن الناس من الوصول إلى أموالهم، وبدأت حالة من الذعر تنتشر بين المواطنين. في نفس الوقت، توقفت أنظمة الاتصالات، مما جعل التواصل بين الأفراد والمؤسسات شبه مستحيل.

وسرعان ما انتقلت المشكلة إلى المستشفيات التي بدأت تعاني من مشاكل في أنظمة المعلومات الصحية، وهو ما أثر على قدرة الأطباء على الوصول إلى سجلات المرضى وتقديم الرعاية اللازمة. في الوقت نفسه، بدأت الشركات الكبرى تعاني من تسرب بيانات حساسة، أدت إلى خسائر مالية كبيرة وفقدان الثقة من قبل العملاء.

وتفاقمت الأزمة أكثر عندما بدأت محطات الطاقة تتوقف هي الأخرى عن العمل، وهو ما أدى إلى انقطاع الكهرباء في أجزاء كبيرة من المدينة. وتوقفت الروبوتات التي يعتمد عليها الجميع عن العمل.

أصبحت الحياة اليومية أكثر صعوبة، وبدأت الجرائم في الارتفاع نتيجة للفوضى وغياب الرقابة.

بمرور الوقت، بدأت الحكومات والمؤسسات الدولية تتدخل لمحاولة احتواء الأزمة. تم تشكيل فرق طوارئ من خبراء المعلوماتية والأمن السيبراني لمحاولة استعادة السيطرة على الأنظمة المتضررة. لكن الأضرار كانت كبيرة، والخسائر في الأرواح خاصة بين المرضى وكبار السن كانت أكبر، أما الخسائر المالية فيصعب تقديم معلومات دقيقة عنها حتى بعد مرور أيام على الحادث، وإن تم تقديرها بآلاف المليارات.

رغم كل الجهود المبذولة، استغرق الأمر أسابيع قبل أن تعود الحياة إلى طبيعتها ويستتب الأمن والنظام ثانية.

هذا سيناريو متخيل لما يمكن أن تواجهه المدن الذكية من مخاطر مستقبلاً. وما حدث يوم الجمعة الماضي سيناريو واقعي صغير لما يمكن أن يواجهه العالم في حال حدث خطأ ما في أنظمة الكمبيوتر أو بعض التطبيقات التي تعتمدها الشركات والأفراد في تسيير أمور حياتها يوميًا.

وفقًا لمصادر مطلعة، قدرت الخسائر الناجمة عن العطل في البنية المعلوماتية خلال 24 ساعة فقط بين 200 و300 مليار دولار، علمًا أن الضرر لحق بالأجهزة التي تعتمد على أنظمة ويندوز فقط، والتي قدرتها الشركة الأميركية بحوالي 8.5 مليون جهاز، موضحة في منشور عبر مدونتها أن هذا العدد يمثل أقل من 1 في المئة من جميع الأجهزة التي تعمل بنظام ويندوز.

الخلل التقني المحدود، الذي وصفته وسائل الإعلام بالكبير، شكل استفاقة وأشعل جدلاً كبيرًا بين الخبراء والمختصين حول عواقب الفشل التكنولوجي.

◄ يجب أن نتذكر دائمًا أن المدن التي سنعيش فيها مستقبلاً قد تكون مدنًا ذكية في كل تفاصيلها، ولكنها لن تصبح مدنًا فاضلة إلا بالعمل المشترك المسبق والدؤوب

سرعان ما حدد مصدر الخلل وتبين أن المتسبب تحديث قامت به شركة الأمن السيبراني “كراودسترايك” لبرنامج واحد في نظامها، يطلق عليه Falcon Sensor، عواقب التحديث كانت كارثية، طالت شركات طيران ومطارات ووسائل إعلام وبنوك وتجارة التجزئة في جميع أنحاء العالم.

هذا الحدث، الذي وُصف بأنه “أكبر انقطاع في تكنولوجيا المعلومات في التاريخ”، كان مثابة تذكير واضح بحجم الشبكة الواسعة من الترابطات البينية لتكنولوجيا المعلومات التي تدعم البنية التحتية الرقمية، ويعتمد عليها في كل تفاصيل حياتنا اليومية، وما قد تنجم عن ذلك من تهديدات بسبب أخطاء غير متوقعة تترتب عليها عواقب بعيدة المدى.

الخلل التقني، رغم الخسائر التي ترتبت عنه، ألقى الضوء على الأبعاد الجيوسياسية لهذه التبعية والاعتماد المطلق على الشركات الكبرى، وهو ما شاهدناه من تأثر البلدان التي تعتمد بشكل كبير على خدمات مايكروسوفت وكراودسترايك بشكل أكبر من غيرها. وهنا نذكر أن روسيا نجت تمامًا من الخلل، وذلك بسبب المقاطعة والعقوبات المفروضة عليها.

يمكن أن تُترجم المشاكل التقنية إلى نقاط ضعف جيوسياسية، تفرض على الدول إعادة تقييم الآثار الاقتصادية والإستراتيجية والجيوسياسية لتحالفاتها في مجال تكنولوجيا المعلومات.

الخلل التقني أثار خصوصًا تساؤلات جدية حول مدى مرونة أنظمة التشغيل “ويندوز”، وتدابير الأمن السيبراني التي تتخذها كراودسترايك.

جدير بالذكر أن كراودسترايك شركة أميركية متخصصة بالأمن السيبراني ومقرها أوستن، تكساس. تأسست بإشراف جورج كورتز، وهو موظف سابق في شركة McAfee، عام 2012، تساعد الشركات في إدارة أمانها في “بيئات تكنولوجيا المعلومات”، وكل ما يتم الوصول إليه عبر اتصال بالإنترنت. وتتمثل مهمتها الأساسية في حماية الشركات ومنع خروقات البيانات وهجمات الفدية والهجمات السيبرانية الأخرى.

وسبق أن شاركت في مكافحة العديد من الهجمات الإلكترونية البارزة، بما في ذلك اختراق شركة Sony Pictures عام 2014، والهجمات الإلكترونية في الفترة 2015-2016 على اللجنة الوطنية الديمقراطية في الولايات المتحدة، وتسريب البريد الإلكتروني.

المخاطر المترتبة على اختراق أمن المعلومات لا تقتصر على الأفراد، بل من الواضح أن آثارها أعمق على السياسة والاقتصاد.. من الناحية السياسية، يمكن أن تؤدي الهجمات السيبرانية إلى زعزعة استقرار الحكومات وإضعاف الثقة في المؤسسات العامة. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الهجمات على البنية التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء والمياه إلى اضطرابات كبيرة تؤثر على حياة المواطنين اليومية وتضعف الثقة في قدرة الحكومة على حماية مصالحها.

بوكس

أما من الناحية الاقتصادية، فيمكن أن تؤدي الهجمات السيبرانية إلى خسائر مالية ضخمة تطال الشركات والدول، حيث يؤدي تسرب البيانات الحساسة إلى فقدان الثقة من قبل العملاء والشركاء التجاريين، مما يترتب عليه خسائر مالية كبيرة. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي الهجمات إلى تعطيل العمليات التجارية، مما يتسبب في توقف الإنتاج والخدمات، وبالتالي خسائر اقتصادية كبيرة.

وهذا يطرح تساؤلاً حول مدى فاعلية مثل هذه الشركات في حماية أمن العالم.

علينا أن نواجه الحقيقة القاسية، وهي أن العالم ليس بمأمن كامل من المخاطر التي قد تطال أمن المعلومات، حيث تتزايد التهديدات الإلكترونية بشكل مستمر مع تطور التكنولوجيا. وأحداث يوم الجمعة رغم محدوديتها النسبية دليل على ذلك.

أمن المعلومات ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو قضية إستراتيجية تؤثر على السياسة والاقتصاد بشكل كبير. وقد بينت أحداث الجمعة أنّ على الحكومات والشركات الاستثمار في أمان المعلومات واتخاذ التدابير اللازمة لحماية بياناتها وأنظمتها من التهديدات السيبرانية المتزايدة.

مؤخرا تصاعد الجدل حول المخاطر المحتملة التي يمكن أن يتسبب بها الاعتماد الكبير على الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتناسى الناس المخاطر المترتبة على أمن البيانات والمعلومات، وهي مخاطر لا تقل في حال شهدتها المدن الذكية يومًا عن مخاطر السلاح النووي.

في الماضي كان السلاح النووي أكبر تهديد محتمل قد تواجهه البشرية، وهناك حتى اليوم من يرى أن السلاح النووي هو التهديد الأكبر. الهجوم النووي يحمل خطرًا فوريًا ومدمرًا على نطاق واسع، بينما تهديدات أمن المعلومات يمكن أن تكون أكثر انتشارًا وتأثيرًا على المدى الطويل.

وإذا كانت بعض الأصابع لكبار المسؤولين فقط تتحكم بالصواريخ النووية، فإن أصابع كثيرة يمكن أن تمتد إلى تكنولوجيا المعلومات. ولكن، ما هو مؤكد أن كليهما يمكن أن يؤدي إلى تصعيد النزاعات الدولية وزيادة التوترات بين الدول، وهو ما يتطلب استعدادًا، وتعاونًا دوليًا مسبقًا للتصدي له بفعالية في حال حدوثه.

أخيرا، يجب أن نتذكر دائمًا أن المدن التي سنعيش فيها مستقبلاً قد تكون مدنًا ذكية في كل تفاصيلها، ولكنها لن تصبح مدنًا فاضلة إلا بالعمل المشترك المسبق والدؤوب.

12