مدمنو المخدرات.. عائدون من الموت

توصلت مجموعة من الدراسات إلى أن المخ، عند اقترابه من الموت، قد يفرز المواد نفسها ذات التأثير النفساني مثل تلك التي يستعملها المتعاطون للمخدرات أو المواد التي تؤثر على مستقبلات المخ نفسها مثل المخدرات.
نيويورك- كشف باحثون أن تعاطي بعض أنواع المخدرات أو حبوب الهلوسة قد يوصل مدمنها إلى عوالم متداخلة بين الوعي واللاوعي وبين الحياة والموت وبين الإحساس وانعدامه. وقد يفلح بعض المدمنين في العودة مجددا إلى الحياة ومنهم من يواصل عبوره ويفشل جسده ودماغه في مقاومة التفاعلات الخطيرة التي تحدثها مكونات المخدرات الكيميائية.
نشرت مجلة آين البريطانية تقريرا يتحدث عن تجربة المدمنين “للموت”. وجاء في التقرير أن فريقا دوليا من الباحثين بقيادة شرلوت مارسيال بالمستشفى الجامعي في لياج في بلجيكا قد قام بمقارنة 625 رواية مكتوبة عن تجارب قريبة من الموت مع أكثر من 15 ألف رواية سردية مكتوبة عن تجارب تناول المخدرات ذات التأثير النفساني، بما في ذلك 165 مادة مختلفة في عشرة أصناف من المخدرات.
نشر التحليل على الإنترنت في مجلة ‘الوعي والإدراك’ في شهر فبراير 2019. وأماط هذا التحليل اللثام عن نقاط تشابه كبيرة بين التأثيرات النفسية لبعض أنواع المخدرات (خاصة الكيتامين، ولكن أيضا المخدرات المهلوسة الفعالة على هرمون السيروتونين مثل عقاقير الهلوسة) وبين تجارب الاقتراب من الموت. وبالفعل كانت المصطلحات التصنيفية الأكثر شيوعا في الروايات السردية لأشخاص تناولوا مادة الكيتامين المخدرة هي نفسها المصطلحات الخمسة الأكثر شيوعا الواردة في روايات تجارب الاقتراب من الموت.
وهذا يوحي بوجود “خصائص مشتركة مرتبطة بالحالة المعدلة للنظرة للذات والمحيط، والانصراف عن المحتويات اليومية للنشاط العقلي الواعي”. وبالتحول من صنف لصنف يتعمق التشابه، فعند الحديث عن الإدراك الحسي استعملت المجموعتان لفظتي “الوجه” و”الرؤية”. وكانت الكلمة العاطفية الأكثر استعمالا من الجانبين هي “الخوف”. وفي صنف الوعي والإدراك كثيرا ما تحدث متعاطو المخدرات والمشاركون الذين مروا بتجارب الاقتراب من الموت عن كلمات مثل “الواقع” و”اللحظة” و”الكون” و”التعلم”.
وكثيرا ما تم وصف الإطار المكاني على أنه “باب” و”أرضية“. وكانت النبرة السلبية المؤكدة على المشاعر الجسدية المزعجة هي الموضوع الشائع المشترك الآخر بين المجموعتين. وتدعم نتائج التحليل ملاحظات بعض أشهر مستكشفي عالم الهلوسة في القرن الماضي، حيث وصف عالم النفس الأميركي تيموثي ليري النزهات التي تلحق الدماغ بعد تناول المخدر على أنها “تجارب في الموت التطوعي”.
وقال الكاتب والفيلسوف البريطاني المولد جيرالد هيرد عن تجربة الهلوسة “ذلك هو بالضبط ما سيكون عليه الموت. كم سيكون ممتعا”. بيد أن ما يقال عن أوجه الشبه يتجاوز هذه التقارير المشهورة إذ يعطي هذا البحث الجديد الشرعية للتماثل الطويل الأمد الذي أقيم بين تجربة الموت والتأثيرات الحادة لبعض المخدرات ذات التأثير النفساني. لقد ظهرت الروابط بين الاحتضار والموت والوجود المحتمل لحياة أخرى وبعض النباتات والفطريات المهلوسة بصفة مستقلة عبر المجتمعات المختلفة وهي كذلك منتشرة في ثقافة الهلوسة المعاصرة، بيد أن البحوث التجريبية ظلت نادرة إلى حد الآن.
وإلى حد ما تساند النتائج أيضا الروايات الكيميائية العصبية لتجارب الاقتراب من الموت وخاصة القول المثير للجدل بأن تجارب كهذه يتسبب فيها الإفراز الطبيعي لمخدر في المخ شبيه بمادة الكيتامين لم يتم اكتشافها بعد. وما يزيد من وجاهة هذا التفسير هو أن الكيتامين معروف بأنه يعمل على المستقبلات العصبية التي تساعد عند تنشيطها في تفادي موت الخلايا وتوفر الحماية من نقص الأوكسجين.
ويقول الباحثون “هذا الكم من الأدلة التجريبية يدعم فكرة أن تجربة الاقتراب من الموت هي بحد ذاتها حالة معدلة من الوعي يمكن البحث فيها باستعمال المقاييس السايكومترية الكمية”. ذلك في حد ذاته إنجاز الى حد ما حيث يلاحظ الباحثون بمرارة قائلين “خلافا للتجارب الإنسانية الأخرى، من الصعب دراسة حالة الاحتضار ضمن شروط مخبرية متحكم فيها بواسطة قياسات متكررة”، مما يجعل من الصعب البحث في تجارب الاقتراب من الموت بشكل تجريبي. وعلى الرغم من أن هذا البحث الجديد يفتقر إلى التحكم المخبري نجد نقطة إيجابية تتمثل في أن المقارنة المعجمية التي قام بها فريق الباحثة مارسيال “ضخمة في ما يتعلق بالمخدرات موضوع البحث وعدد التقارير المرتبطة بها”.
إن حدود المقاربة الحالية بما في ذلك الاعتماد على روايات تعتمد على استعادة الأحداث التي تعود إلى عقود من الزمن تعني حسب تعبير الباحثين أنهم لا يستطيعون إقرار أو دحض النماذج الكيميائية العصبية لتجارب الاقتراب من الموت.
وجود خصائص مشتركة مرتبطة بالحالة المعدلة للنظرة للذات والمحيط، والانصراف عن المحتويات اليومية للنشاط العقلي الواعي
ويضيفون بقولهم “لكن نتائجنا تقدم بالفعل دليلا على أن الكيتامين إضافة الى مواد أخرى ذات تأثير نفساني تفضي إلى حالة شبيهة بتجربة ‘الاحتضار’ من الناحية الفينومينولوجية (التي تفهم على أنها مضمون روايات تجارب الاقتراب من الموت). ويمكن أن تكون لهذا استتباعات مهمة بالنسبة إلى الحث الدوائي للحالات الشبيهة بالاقتراب من الموت لأغراض علمية، إضافة إلى الاستعمالات العلاجية لفائدة المرضى في المراحل الأخيرة كوسيلة لتخفيف القلق من الموت. نعتقد أن تطوير علاجات مرتكزة على الأدلة لمثل هذا القلق يمثل حجر الزاوية لمقاربة أكثر تعاطفا تجاه التجربة الكونية للانتقال بين الحياة والموت”.
وأوضح الباحثون أن “شدة التجربة التي تحفزها مادة الكيتامين المرتبطة بالقنب الهندي قد تمثل صدمة للمستعملين الغافلين الذين يمكن أن يقتربوا من الموت”. وشدد التقرير على خطر أنواع بعينها من المخدرات وحبوب الهلوسة وأورد “مدخنو الماريخوانا، لقد تم تحذيركم. وباعتبارها أشد الحالات المتغيرة والمغيرة للحياة المعروفة، تجربة الاقتراب من الموت ليست نفسا يؤخذ من غليون بعد نهاية الدرس أو العمل”.