مخاوف في تونس: نظام الاقتراع على الأفراد يعبد الطريق لأصحاب النفوذ ويحيي القبلية

حماس التونسيين للقطع مع المنظومة السابقة، وخاصة النظام البرلماني الذي أفضى إلى تعطيل البلاد لعشر سنوات كاملة وأسس للصراعات، يدفعهم إلى دعم أيّ تغيير يخلصهم من الأحزاب بما في ذلك نظام الاقتراع لفائدة الأفراد الذي يقترحه الرئيس قيس سعيّد. لكن هذا النظام يحمل في طياته مخاوف وتساؤلات بشأن فاعليته وقدرته على تجاوز الصورة السيئة للبرلمانات السابقة.
تونس - أثار اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد، الذي يقترحه الرئيس التونسي قيس سعيّد، بدل القوائم الانتخابية، تساؤلات لدى الأوساط السياسية والحقوقية، بشأن فاعلية هذا التوجّه على ملامح المشهد في البلاد، وسط مخاوف من إمكانية عودة رموز المنظومة السابقة، وفتح المجال لصعود أصحاب المال والنفوذ إلى المؤسسات المنتخبة مثل البرلمان والبلديات، فضلا عن تهميش وجود النساء والشباب المتطلّع إلى لعب دور ريادي.
وكشف الرئيس التونسي قيس سعيّد الأربعاء أن “التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة (17 ديسمبر) سيكون في دورتين، وعلى الأفراد وليس على القوائم بحسب ما جاء في الاستشارة الوطنية”.

حاتم العشّي: نظام الاقتراع على الأفراد يعتمد على إشعاع الفرد في منطقته
وأكد على هامش زيارته قبر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات هي التي ستشرف على الانتخابات، “لكن ليس بالتركيبة الحالية”، مضيفًا أنّ “الشعب التونسي سيقول كلمته في الدستور الجديد والنظام السياسي خلال الاستفتاء يوم الخامس والعشرين من يوليو المقبل”.
وفيما تحمّس الكثيرون لفكرة الاقتراع على الأفراد وليس للقوائم كونها تقطع الطريق على عودة الأحزاب التي تسبب بما بات يعرف في تونس بأزمات “العشرية السوداء”، فإن سياسيين ومحللين لفتوا إلى محاذير هذه السياسة التي قد تحقق عكس ما يراد منها من التمكين لطبقة جديدة تتسم بالنزاهة ونظافة اليد.
وتساءل هؤلاء السياسيون والمحللون إن كان هذا النظام سيفتح طريق الصعود إلى المؤسسات المنتخبة (البرلمان، البلديات) لفئة خاصة: أصحاب المال والنفوذ، ويعيد القوة للعشيرة والقبيلة، وأنه سيهمش النساء ويقطع الطريق أمام التناصف إذا لم يلغه تماما خاصة أن شعبية النساء في مجتمع ما يزال ينظر إلى دورها السياسي بالريبة والشك.
ومن المخاوف، أيضا، أن اعتماد هذا النظام يمكن أن يهمّش الشباب والفئات الضعيفة التي تنتصر حاليا لقيس سعيّد، والتي كانت وراء صعوده إلى الرئاسة. كما أنه قد يحد من صعود المثقفين والفنانين والمحامين والجامعيين وخبراء القانون، وهذا سيؤثر على أداء البرلمان في المستقبل خاصة على مستوى تعديل القوانين ومناقشة المشاريع التي تقدمها الحكومة.
“العرب” حملت هذه المخاوف المشروعة إلى سياسيين وخبراء وسألت عن فرص تونس في النجاح باعتماد نظام الاقتراع لفائدة الأفراد، وهل سيؤثر على مصداقية قيس سعيّد ورؤيته للتغيير.

سهير العسكري: لا أعتقد أنه سيتمّ تجاهل دور النساء والشباب في الحياة السياسية
واعتبر المحامي والوزير السابق حاتم العشّي أن “نظام الاقتراع على الأفراد فيه نقاط إيجابية وأخرى سلبية، ويمكن أن يدخل أشخاصا هواة ويتخفّون وراء قائمات، بينما يعتمد النظام الجديد على إشعاع الفرد في منطقته، ويُعرف بالكفاءة وتجنّب ممارسات الفساد، لكن هناك مناطق فيها طابع العروشية (العشائر) الذي يمكن أن يكرّس ذلك الانتماء”.
وأضاف في تصريح خاصّ بـ”العرب”، “التونسيّون سيعرفون بالاسم من هم الأشخاص المرشّحون، وفي غالب الأحيان لن يتجاوز التصويت نسبة الـ50 في المئة، مع ترشيح شخصين للدور الثاني والذي لن تكسبه الأحزاب، لذلك عبّرت حركة النهضة عن رفضها للنظام الجديد لأنها تدرك جيّدا أنه لا يخدم مصالحها ويقلل من نفوذ الأحزاب”، لافتا إلى أن “المسألة مرتبطة أساسا بإشعاع الشخص في تلك المنطقة، ويمكن أن يكن رجل قانون أو خبيرا أو يساريا أو غيره”.
وبشأن المخاوف من تداعيات فشل نظام الاقتراع الجديد، اعتبر المحامي العشي أنه ” توجد صعوبات في مسألة تقسيم الدوائر الانتخابية، إذ يمكن أن يترشّح شخص على منطقة تضم 40 ألف ساكن، وأخرى تضم أكثر من 100 ألف ساكن، وهذا ما يستدعي ضرورة تحديد عدد السكّان”.
وعلى الرغم من أن النظام الجديد، سيقطع الطريق على الأحزاب السياسية، بالانتصار إلى المراهنة على الأشخاص، فإن البعض يرى أنه يمكن أن يكون فرصة لعودة بعض الأطراف بقوة من بوابة هذا النظام على غرار حركة النهضة التي قادت المنظومة السابقة، ونجحت في تركيز نفسها، وهي قد تعاود الظهور في البرلمان أو المحليات متخفّية وراء رجال أعمال، أو تدعم شخصيات قبلية كما حصل في الانتخابات المحلية.
وقالت الناشطة السياسية والنائبة السابقة بالبرلمان سهير العسكري إن “هذا الكلام يعتبر سابقا لأوانه، باعتبار أن القانون الانتخابي الجديد ما زال لم يصدر بعد، وما زلنا لا نعرف بعد المقاييس التي ستعتمد لاختيار الأفراد، ولا أعتقد أن الرئيس سعيّد وأساتذة القانون الدستوري سيتغافلون عن ذلك”.
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن “الاستفتاء أكّد الاعتماد على الأفراد أكثر من القوائم والنواب، ومن المتوقّع أن يتم في القانون الانتخابي الجديد سحب الثقة من أي نائب إذا لم يف بوعوده في جهته”.
وتابعت سهير العسكري “الرئيس سعيّد سيضع لجنة لهذه العملية وسيأخذ بعين الاعتبار كل الجزئيات والتفاصيل، ولا أعتقد أنه سيتمّ تجاهل دور النساء والشباب في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسوف يتم التنصيص على الدور الفاعل للشباب”، مستبعدة أنه “بعد كل هذا المسار النضالي من أجل حقوق المرأة ألا يتم تفعيل دور النساء في الحياة السياسية”.
وبخصوص عودة الأحزاب السياسية من بوابة المراهنة على الأفراد وأصحاب النفوذ المالي قالت العسكري “جائز جدا أن تتلّون الأحزاب، مثلما رأينا في انتخابات 2019، حزب ائتلاف الكرامة التابع لحركة النهضة، وهذه فرضيات ممكنة، وعلينا أن نضع مقاييس واضحة لذلك، على غرار عدم استعمال المال السياسي، أو أن تتعلق بالشخص شبهات فساد”.
واستطردت ” أعتقد أن الرئيس سعيّد يتجّه نحو العزل السياسي للأحزاب التي يشتبه في تلقيها تمويلات خارجية واستخدمت المال الفاسد”.

محمّد التليلي المنصري: النظام الجديد سيمكن الناخبين من محاسبة من منحوهم أصواتهم
ويقوم مشروع الرئيس سعيّد على فهم مغاير لممارسة العملية الديمقراطية وفق فكر سياسي جديد، حيث ينبني هذا الطرح على مبدأ الديمقراطية المباشرة والبناء القاعدي من خلال انتخاب مجالس محلية بحسب عدد المعتمديات في تونس، أي 264 مجلساً محلياً، يتم انتخاب أعضائها عن طريق الاقتراع المباشر على الأفراد من كل عمادة.
وقال عضو هيئة الانتخابات محمد التليلي المنصري “إن النظام الجديد يشبه نظام الانتخاب في الرئاسيات 2019، حيث يتجه الناخب للتصويت على اختيار فرد (مرشح وحيد) على دورتين وليس على قائمة كاملة”.
وأوضح في تصريح صحافي أن “من مزايا هذا النظام هو تمكين الناخبين من متابعة ومحاسبة من منحوهم أصواتهم”، مشيرًا إلى “إمكانية فتح المجال لاختيار العديد من الأشخاص من قائمات متعددة ومختلفة وبانتماءات مختلفة”.
ويرى متابعون أنه من الصعب تغيير تقاليد عملية الاقتراع بالنسبة إلى الناخب التونسي، خصوصا في هذا الظرف، وهو ما يمكن أن يفتح الطريق أمام عودة ممارسات سابقة ظنّ الجميع أنها انتهت مع سقوط المنظومة السابقة.
وأفاد المحلل السياسي مراد علاّلة في تصريح لـ”العرب” أن “طرح المسألة في هذا التوقيت بالذات يمكن أن يؤدي إلى الفشل، لأننا جهّزنا الناخب التونسي لهذه القاعدة والحال أنه منذ سنة 1956 (تاريخ الاستقلال) ننتخب وفق قانون آخر”.
وأضاف “لا شيء سيمنع من إعادة إنتاج المنظومة السابقة، إذا وجد نفس المال السياسي الفاسد ونفس الممارسات السابقة، ويمكن أن نجد مهرّبا في السلطة المحلية، قادرا على قلب المعطيات في منطقة ما حتى إن عارضه الشباب، وأعتقد هي مغامرة في ظل غياب الممارسة الديمقراطية الفعلية، لأن الطريقة الجديدة ستشجّع على حضور شريحة معينة، وبدل 10 أو 5 كتل نيابية سنجد 217 كتلة باعتبار أن كل نائب يمثّل توجها معيّنا”.
وأردف مراد علاّلة “تغيير قواعد اللعبة الانتخابية يمكن أن يكون فيه تجنّ على حقوق بعض الأطراف السياسية والمدنية، وهذا خيار مجهول النتائج لأنه لا شيء يمنع حركة النهضة أو الدساترة أو التيار الديمقراطي، من إيصال مرشّحيهم سواء عبر القائمات أو الأفراد، والمسألة تتعلّق أساسا بالمشاركة الفعلية في تطوير الحياة السياسية وتكريس الممارسة الديمقراطية”.
وتخشى أطراف حقوقية من خسارة المرأة لرصيدها السياسي في المشهد، بعدما ساهمت هذه المنظومة الانتخابية في صعود تمثيلية هامة للمرأة تجاوزت ثلث تركيبة البرلمان (المتكون من 217 عضوا) إلى جانب إشراك مهم للشباب.
وأفادت نجاة الزموري، عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ” الاقتراع على الأفراد ولد كمقترح لفشل نظام الاقتراع على القائمات، لكن ذلك يمكن أن يتضمن العديد من المخاطر، مثل صعود أصحاب النفوذ المالي على حساب الشباب الذين يتوفرون على الكفاءة ويتطلّعون لإدارة الشأن العام والمشاركة في الحياة السياسية العامة”.
وصرّحت لـ”العرب” أنه “ربما سيفسح المجال أمام نفوذ أصحاب المال والعقّارات ويعيد نفس المشهد مثل حركة النهضة التي تتلوّن سياسيا وراهنت على القوائم والأشخاص في الانتخابات السابقة، فضلا عن المخاوف من تهميش دور النساء وتغييب مبدأ التناصف”.
وقالت الزموري “نخشى عدم وجود حصانة ضدّ عودة رموز الفشل، وربّما سيتم انتخابهم من جديد لأنهم سيحكمون من خلال الأفراد الذين سيدعمونهم بالمال السياسي الفاسد”.
بدوره، اعتبر نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر أن نظام الاقتراع على الأفراد بَدَلَ القائمات سيكون ناجحا عند إجرائه في دوائر انتخابية ضيقة أي في دوائر بلدية أو معتمدية باعتبار أن جميع المترشحين في كل دائرة يعرفون بعضهم جيدا”.
وقال في تصريح لإذاعة محليّة “إنه سيشجّع على الوجاهة العائلية والعروشية (القبلية) والمحلية بمعنى أن المترشح الذي له عائلة كبيرة سيكون المسيطر على تلك الدائرة والأمر ذاته للمترشح الذي له إمكانيات مادية، مؤكدا في هذا السياق ضرورة إعادة النظر في تقسيم الدوائر الانتخابية”.
وكرست تونس نظام الاقتراع على القائمات الحزبية والمستقلة في دورة وحيدة وبتوزيع المقاعد في مستوى الدوائر الانتخابية مع الاعتماد على قاعدة التمثيل النسبي مع أكبر البقايا الانتخابية، وتم وضع هذا النظام بعد نقاشات طويلة بين الأحزاب والمنظمات والحقوقيين صلب الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي أحدثت مباشرة بعد الثورة في 2011 ومكنت من وضع قانون انتخابي.

مراد علاّلة: لا شيء سيمنع من إعادة إنتاج المنظومة السابقة، إذا وجد المال الفاسد
وقال أستاذ القانون الدستوري والنيابي رابح الخرايفي إنه “ينبغي أن نفكر في المشاكل التي قد يطرحها هذا النظام كي نتجاوزها عند وضع النص النهائي، ولا نعرف إلى اليوم ما هو المعيار الذي سيوضع ويعتمد لاختيار مرشح عن الدائرة الانتخابية، فهل ستكون البلدية بما يعني نائبا عن كل بلدية وعندها يكون لنا 350 نائبا بمجلس النواب، أم ستكون المعتمدية بما يعني نائبا عن كل معتمدية وعندها سيكون لنا 264 نائبا بمجلس نواب الشعب”.
وكتب في تدوينة على صفحة الرسمية بمواقع التواصل “إما سيكون هناك نائب عن كل عدد معين (100 ألف مثلا أو أقل من ذلك) من السكان في الولاية؟ وفي كل الأحوال العدد مرتفع جدا فمن المفيد التقليص فيه، وإحداث غرفة نيابية ثانية”.
وتابع “على فرض المضيّ في خيار الانتخاب على الأفراد وفي دورتين فإن هناك جملة من المشاكل الجدية، الخطرة في ذات الوقت علي الاستقرار السياسي وأداء المجلس، وتتمثل في أن هذا النظام لا يمكّن المرأة من دخول المجلس وهو ما يمسّ من مبدأ التناصف، وما يحيى ويعمق هذا الخيار هو فكرتا النعرة القبلية والعروشية في المجتمع التونسي، كما يمكّن هذا الخيار من فتح الباب أمام الترشيحات الفردية غير الجدية وهذا يغرق ويشل عمل الهيئة.”
وأشار الخرايفي إلى أنه “يمكن أن تمر وتفوز الواجهات المالية الجهوية والمحلية الجديدة التي استثرت بطريقة غير شرعية، ويمكن أن يفرز هذا النظام مجلسا غير متجانس الأفكار ولا يوجد انسجام بين النواب وهذا يهدد عمل البرلمان وحسن أدائه”. وقد مكّن النظام الانتخابي على القائمات من إشراك أكبر قدر من الطيف السياسي والأيديولوجي المتنوع والصعود إلى أول برلمان متنوع وتعددي منذ الثورة، حيث كان الهدف إشراك الجميع في صياغة دستور تشاركي من قبل المجلس الوطني التأسيسي (2011 - 2014).