مخاوف المستقبل تدفع المصريين للتهافت على المنجمين

تصاعد في الآونة الأخيرة إقبال المصريين على العرافين والمنجمين في ظاهرة فسرها علماء الاجتماع بالبحث عن السعادة الكاذبة. ويعتقد الباحثون أن ظاهرة الإيمان بالأبراج تكشف درجة الرجعية في المجتمع، حتى لو كانت نسبة التعليم مرتفعة، ذلك أن المقبلين على العرافين ليسوا فقط من الأميين أو من ذوي المستويات العلمية المتدنية بل من بينهم طلبة وخريجو جامعات ورجال أعمال أيضا.
عكست الإحصائية التي أعلنها مركز الأزهر للفلك في مصر قبل أيام حول زيادة اعتقاد المصريين بصحة مضامين الأبراج والتنجيم وادعاء توقع المستقبل، أن الانفتاح وارتفاع المستوى التعليمي لا يمنعان الإقبال على المنجمين.
وأظهرت الإحصائية أن 40 في المئة من المواطنين الذين يتابعون حظك اليوم والأبراج والتنجيم في مصر يصدقون مضمونها ويرسمون حياتهم وفق نصوصها، وهناك 64 في المئة من المجتمع يهتمون بمضامين ما تقوله الأبراج عنهم ويداومون على مطالعتها بشكل يومي، وصار التنجيم في المرتبة الرابعة التي يفضل متابعتها شباب ومراهقون ونساء، سواء أكان ذلك بالتعامل مع خبراء التاروت وتوافق الأبراج بشكل شخصي، أم عبر استضافتهم في الإعلام ومتابعتهم بمنصات التواصل الاجتماعي.
وأصبح هناك عرافون ينتشرون في الكثير من شوارع وميادين وضواحي مصر، وما أن تقترب من أحدهم حتى يبدأ نصب شباكه، وأول سؤال يطرحه عليك: لماذا أنت مهموم ومشغول. قطعا لا يوجد شخص لا يحمل هما ولا عقله خال من التفكير، لكن البعض يعتقد أن هذا الشخص طالما توصل إلى أول شيء فهو يملك الحقيقة المطلقة.
سهير لطفي: اللجوء إلى العرافين يعكس أزمة مرتبطة بالبحث عن الطمأنينة
يستثمر هؤلاء العرافون في أن الكثير من الناس أصبحوا حيارى ويبحثون عن أي وسيلة تطمئنهم وتمنحهم جرعات من الأمل بدلا من حالة اليأس والإحباط التي يعيشون فيها، بمختلف فئاتهم، ورغم تشكيك علماء الدين والاجتماع في قدرة هؤلاء على استكشاف المستقبل، لكن أغلبية الناس لا تهتمّ.
وسيلة للراحة
مع زيادة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لدى شرائح مختلفة بالمجتمع، أصبح اللجوء إلى المنجم إحدى وسائل الراحة، ولو كان ذلك بأسلوب قائم على الخداع واختراع أحداث مستقبلية تثير سعادة الباحث عما ينتظر أن يسمعه، ونادرا ما يبلغه المنجم، أو قارئ الطالع، بمعلومات سلبية تثير إحباطه.
يزداد إيمان الكثير من الناس بقدرة خبراء التاروت وتوافق الأبراج ومدّعي مطالعة المستقبل باستضافة وسائل الإعلام لهم على فترات متقاربة، فتجدهم يرسمون ما سيحدث بطريقتهم الخاصة، ويقولون إن هذا علم واسع. والمفاجأة أن توقعاتهم قد تصدق أحيانا حتى يبدأ بعض المشككين الاقتناع بإمكانياتهم.
من هؤلاء السيدة بسنت يوسف التي أصبح جمهور بعض البرامج التلفزيونية يترقبون ظهورها على الشاشة، حيث سبق أن توقعت قبل عدم حصول النادي الأهلي المصري، صاحب الشعبية الكبيرة، على بطولة الدوري، وكان كلامها عام 2020، وبالفعل خسر الأهلي البطولة رغم قوته الضاربة، لحساب غريمه التقليدي الزمالك.
كما توقعت مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض وفوز منافسه جو بايدن، وتنبأت بوقوع أزمات سياسية واقتصادية معقدة في لبنان، وقد حدث ذلك، وحاولت “العرب” التواصل معها أكثر من مرة، لكن دون جدوى، فلا ترد على هواتفها الآن.
محمد هاني: من تربى على الإيمان بالأبراج قد ينقل ذلك إلى أولاده
أصبحت أغلب المواقع الإخبارية في مصر تتعامل مع أبواب حظك اليوم باعتبارها الباب السحري لزيادة معدلات الإقبال الجماهيري عليها، وهناك صحف تهتم بها على حساب محتويات أخرى جادة، من شدة تركيز القراء عليها، وفي بعض المواقع تصل زيارات الجمهور لأبواب الحظ إلى المرتبة الأولى من حيث نسب المتابعة.
يشكك بعض العقلاء في صدق تنبؤات خبراء التاروت ويبرهنون على ذلك بأنه إذا نظر أي شخص متوازن إلى حظه اليوم في صحيفتين مختلفتين يستنتج بسهولة أن علم الأبراج يرتقي إلى مرتبة الاحتيال لأنه يستحيل تطابق توقعات نفس الطالع في الصحيفتين، ما يعني أن ما يُكتب عن الأبراج محض تأليف.
بلغت الدرجة أن هناك من يربط تشاؤمه من اليوم بسبب ما كُتب عنه في طالعه. فيقول محمد منتصر، وهو شاب يدمن متابعة الأبراج ويصدقها، إنه أصبح يداوم على قراءة ماذا يقول برجه، وذات يوم رفض الذهاب إلى العمل بعدما قرأ أمام برج الدلو “البقاء في المنزل والاسترخاء أفضل من الخروج والتعرض لمشكلات”، وقرر يومها أن يتغيّب ويبقى في بيته.
يعتقد محمد الذي تحدث مع “العرب” أن كلام الأبراج ليس بالضرورة تأليفا، لأنه يتعرض أحيانا لمواقف يثبت تطابقها مع ما يسوق له خبير التاروت، ورغم أنه قد لا تكون التوقعات اليومية صحيحة، لكنه يرفض التنازل عن قناعاته بأن هذا مجرد ترتيب أقدار ليس أكثر، ووارد أن الظروف تتغير في لحظة لأن الكون ليس ثابتا، والكواكب متحركة، هكذا بات الشاب يُدمن الطالع ويقرر حياته اليومية وفق ما يُملى عليه ممّن يدّعي العلم بالمستقبل.
يختلف علم التاروت والأبراج ومطالعة الفنجان وقراءة الكف عن الدجل والشعوذة، لأن هؤلاء مصنفون على أنهم سحرة، ويدّعون امتلاكهم قوة خارقة لتغيير الواقع، أو إلحاق الأذى بالآخرين، والمعضلة أن لهم جمهورهم الذي يتهافت عليهم إما للشفاء من الأمراض وإما لفك السحر أو تعكير صفو حياة الخصوم.
وصفة السعادة
صابرين محمد، هي زوجة مصرية، دائما ما تذهب إلى قارئ الطالع الذي يقيم في منطقتها، كلما تعرضت لمشكلة أسرية أو نفسية، لها أو لإحدى بناتها، حتى أصبح كلام الرجل بالنسبة إليها دستورا تمشي عليه وتلتزم ببنوده، إذا أرادت أن تعيش حياة سعيدة، لا تطاردها الأزمات، سواء هي أو بناتها المتزوجات.
وقالت الزوجة لـ”العرب” إنها ورثت ذلك على والدتها حتى أصبحت أسيرة لكلام العراف، فهو كثيرا ما يمنحها طاقة الأمل ويبلغها بأن حياتها تنتظرها أحداثا سعيدة، وهو من نبأها بقرب إنجاب ابنتها بعد فترة من العقم، رغم أن الأطباء كانوا أبلغوها بذلك فعلا، لكن الخبر اليقين حصلت عليه من الطالع.
المعضلة أن الأم نشرت المعلومة بين جيرانها وعائلتها حتى صارت كل امرأة لديها مشكلة في حياتها أو مقبلة على أزمة تذهب إلى الرجل ليتنبأ لها بالمستقبل السعيد، ويقنعها بموعد زوال الهموم، وعلى إثر ذلك صار يجني من وراء هذه ذلك مبالغ كبيرة، نظير جرعة التفاؤل التي يقدمها إلى جمهوره.
ويعتقد متخصصون في علم الاجتماع أن أعمال التنجيم عموما يفترض أن يتم التعاطي معها باعتبارها احتيالا لأن الطالع أو مدعي العلم بالغيب، يوهم الناس بأنه يعلم ما تخفيه الأيام، مستغلا خوف الناس من المستقبل في كل ما يرتبط بحياتهم، ويقدم لهم ما يتناغم مع آمالهم وأحلامهم، بمقابل مادي، حتى يصبح الشخص أسيرا له ولقراراته.
أوضحت سهير لطفي خبيرة علم الاجتماع أن اللجوء إلى العرافين والاستسلام للطالع يعكس أزمة مجتمعية مرتبطة بأن الناس شغوفة بالبحث عن الطمأنينة، حتى لو كانت كاذبة، وهذا يتناقض كليا مع الدعوة إلى إعمال العقل والمنطق رغم ارتفاع منسوب الوعي بالمجتمع، والمشكلة أن هناك ميراثا فكريا يصعب هدمه بسهولة، يروج أن العراف بمثابة طبيب نفسي يمنح الأمل للباحثين عن السعادة.
رغم تشكيك علماء الدين والاجتماع في قدرة المنجمين والعرافين على استكشاف المستقبل، إلا أن أغلبية الناس لا تهتم
وأضافت لـ”العرب” أن “الكثير من المداومين على مطالعة الأبراج والمهتمين بعلم التاروت يبحثون عن واقع أفضل من الحال الذين هم عليه، وهذا لا يرتبط بحب الاطلاع فقط، بل إن الأمر يتعلق بالخوف أحيانا والعجز عن الوصول إلى حلول مرضية للذات البشرية، فيبدو للبعض أن العراف يمتلك هذه الحلول، وهذا يكرس تغييب الوعي والمنطق”.
ولم يعد اللجوء إلى العرافين حكرا على الأميين أو الفقراء فقط، بل هناك نسبة عالية من خريجي الجامعات وأصحاب المؤهلات العليا يصدقون الأبراج ومدّعي الاطلاع على الغيب، وكل ذلك يتعلق بالنظرة التشاؤمية من المستقبل والبحث عن بصيص أمل، حتى ولو لم تكن له أرضية واقعية تضفي عليه مصداقية.
ورأى محمد هاني استشاري الطب النفسي أن المعضلة تكمن في توريث الخرافة لدى بعض الأسر، فمن تربى على الإيمان بالأبراج والحصول على جرعة أمل من العراف قد ينقل ذلك إلى أولاده، ما يفسر استمرار لجوء البعض إلى هؤلاء، بغض النظر عن المستوى الاجتماعي والتعليمي، ويتطلب حملة توعوية وقانونية ترهب هذه الفئة لتضييق دائرة الاحتيال على الناس.
وقال لـ”العرب”، “إن اللجوء إلى رسم المستقبل بناء على تنبؤات العراف، يعكس حالة اليأس والاستسلام عند بعض الناس، وليس بالضرورة يبرهن ذلك وجود حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي، بدليل أن هناك رجال أعمال أيضا يبنون حياتهم وفق كلام عرافين، ومشاهير يتعاملون مع نفس الفئة، وبالتالي فالموضوع برمته قائم على الوعي ومدى القدرة على إيجاد حلول عقلانية للمشكلات”.
وفق دراسات اجتماعية، فإن اللجوء إلى العرافين واستشراف المستقبل عبر الأبراج يعكس تنامي حالة فقدان الأمل عند الشريحة المجتمعية التي تقدس هذا المسار، ورغم تناقضه كليا مع العلم والدين يظل أفضل خيار للهروب من حالة الاستسلام عند البعض، فيلجأ إلى العراف الذي يمنحه جرعة إيجابية، وهذا في حد ذاته ضعف وخنوع وعجز، لا يجب التماهي معه.
ويعاني الكثير من المصريين انخفاضا في منسوب التفاؤل من المستقبل، في ظل ظروف معيشية واقتصادية صعبة، والشعور بأن خيبة الأمل في الماضي سوف تتكرر لاحقا، وهو ما يدفع البعض نحو الخرافة على سبيل التفاؤل أو الهروب من دوامة الإحباط، لإيمانه بأن من يقرأ الطالع ليس بالضرورة كاذبا، فقد يكون أسطورة ولديه قدرة على مطالعة المستقبل أو التحذير من مخاطر مرتقبة مطلوب تلافيها.
أغلب المواقع الإخبارية في مصر أصبحت تتعامل مع أبواب حظك اليوم باعتبارها الباب السحري لزيادة معدلات الإقبال الجماهيري عليها
وأكد محمد هاني لـ”العرب”، “أن الظروف المعيشية الصعبة ليست مبررا لتغييب العقل والاستسلام إلى الجهل، لأن هذا يكرس التواكل بين الناس، فأغلب العرافين لا يصدمون جمهورهم من المستقبل ويبثون فيهم التفاؤل حتى لا يهربوا منهم، طالما أن الهدف منحهم جرعات أمل لا المزيد من اليأس والإحباط والتشاؤم، حتى أصبح البعض يتعاملون مع الدجال كطبيب نفسي”.
تفضل شريحة كبيرة الذهاب إلى العراف عن زيارة الطبيب النفسي لتجنب الوصمة المجتمعية التي تطاردهم لكونهم يعانون اختلالا عقليا، وهذه ثقافة منتشرة بين الجاهل والمتعلم، والغني والفقير، بأن العلاج النفسي يعني اضطرابا ذهنيا عند الشخص.
ويعتقد باحثون أن ظاهرة الإيمان بالأبراج تكشف درجة الرجعية في المجتمع، حتى لو كانت نسبة التعليم مرتفعة، فالعبرة بإعمال العقل والمنطق داخل هذا المجتمع، وقياس الأمور وفق أطر علمية، أما الاستسلام لرؤى المستقبل التي يرسمها العراف، فهذا مؤشر على أن المجتمع يعاني من أعراض مرضية نفسية.
وتحمل بعض الأصوات الحكومة جزءا من مسؤولية انتشار الخرافات بالمجتمع، فهناك أدوات عقاب لا يتم تفعيلها، وغالبا ما تتحرك المؤسسات الرسمية بعد وقوع حالات نصب مادي أو ابتزاز جسدي قام بها عراف، أما غير ذلك من وسائل تغييب العقل فلا تكون هناك محاسبة عليها.
ما يعزز ذلك أن هناك قرى مصرية صارت مشهورة بمهارة العرافين، ويسافر إليهم الناس من أقاليم بعيدة، للبحث عن حلول لمشكلات حالية، أو استشراف المستقبل، خوفا مما تخبئه الأيام، وهذه الفئة تعتبر العراف هو ذلك الشخص الخارق الذي يمتلك كل الحلول، المادية والنفسية والزوجية والاجتماعية وغيرها.
ولأنه لا توجد حملات توعية، بل ترويج إعلامي واضح لما يسمى علم التاروت، أو التنبؤ بالمستقبل، وتوقعاته سلبا وإيجابا، أصبحت الأجيال الجديدة أيضا تمارس نفس العادة حتى لو كانت منفتحة، وطالما استمر الخطاب الديني وحده هو من يطعن في صحة توقعات الأبراج والطالعين، فلن تكون المواجهة كافية، باعتبار أن الكثير من الأجيال الصاعدة لا تهتم كثيرا بتدخل الدين في حياتهم وتصرفاتهم.