مخاطر ما بعد توقيع اتفاق السلام في السودان

يحتفل السودانيون في جوبا اليوم الاثنين، بتوقيع اتفاق السلام الذي طال انتظاره بين السلطة الانتقالية، والجبهة الثورية كممثلة لحركات مسلحة وتنظيمات سياسية عدة، وهي خطوة مهمة تأخرت نحو ستة أشهر عن موعدها، وجاءت بعد مخاض عسير، وشد وجذب بين قوى مختلفة، وتمثل في النهاية عنوانا لمرحلة جديدة.
جرى التفاهم على تقسيم السلطة، وتحديد حصة كل إقليم في كل من الهياكل الرئيسية، مجلس السيادة، والحكومة، وولاة الأقاليم، والمجلس التشريعي، وتم تجاوز الكثير من المطبات التي اعترضت الوصول إلى هذه الخطوة، باللجوء إلى حلول وسط، وتقديم تنازلات متبادلة، فقد أصبحت الأوضاع لا تحتمل المزيد من الإطالة أو التسويف.
تعلم السلطة، أن السلام هدف أساسي منذ اليوم الأول للإعلان عن تشكيلها قبل نحو عام، ولن يتحقق تقدم دون إحكام غلق الأبواب المفتوحة على الخلافات التاريخية بين المركز والهامش، وقد خاض ممثلو الطرفين جولات تفاوضية عديدة، وسعوا لتجاوز التحديات التي وقفت في طريق التسوية، ومع أن مطالب الحركات المسلحة بدت أحيانا أكبر من استيعاب السلطة، إلا أن الأخيرة قبلت بمعظمها لتمرير الاتفاق.
نجحت وساطة جنوب السودان في تقريب المسافات بين القوى المختلفة حتى وصلت إلى اللحظة الحاسمة التي تم فيها الاتفاق على إنجاز السلام، بعد مناورات ومراوغات وضغوط من أطراف حاولت وضع العصي بين عجلات المفاوضات، وكادت تؤدي هذه الطريقة إلى ترحيل التوقيع لأجل غير مسمى، وإرباك المشهد العام.
جرى وضع صيغ تفاهمية مطاطة للنقاط الخلافية، لأن التأجيل بات عبئا لا يسطيع تحمله مجلس السيادة، والحكومة، وقوى الحرية والتغيير، والجبهة الثورية، لأن التكلفة السياسية للتأخير تتحملها كل هذه المكونات، وقد تجبرها على دفع ثمن باهظ أضخم.
ربط عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية خطوة السلام بمدى الدعم الذي سيقدم إلى السودان، لأنها اُتخذت كدليل يشي بأن السلطة الانتقالية تسير على الطريق الصحيح، وملتزمة بتنفيذ الوثيقة الدستورية التي جعلت السلام محددا مركزيا لها، فدونه لن تتمكن السلطة من تخطي حزم كبيرة من الأزمات الشائكة.
يظل دولاب الدولة معطلا ويصعب على السلطة تحديد الأطر اللازمة لتسوية بعض المشكلات التي تتطلب توافقا وطنيا كبيرا، كما أن البعثة السياسية للأمم المتحدة، والتي تبدأ أعمالها رسميا مع بداية العام المقبل، يصعب عليها ممارسة دورها في ظل التفسخ الحالي وعدم العبور إلى السلام، فهو نقطة رئيسية وفي صميم مهامها.
يمثل التوقيع على اتفاق السلام نقلة في مسيرة الأطراف المختلفة، ويحمل علامة مهمة على الرغبة في سودان جديد، ويطوي صفحات الماضي القاتمة وينشئ سلطة تقوم على المواطنة واحترام الآخر والمساواة بين جميع الأقاليم. فلا فرق بين هامش ومركز أو شمال وجنوب أو غرب وشرق.
يوحي الوصول إلى محطة السلام بأن الخرطوم وعدت فأوفت، والجبهة الثورية عازمة على القطيعة مع الماضي بكل ما يحمله من مرارات ومشكلات، وأن الأمور تسير في طريق يحقق طموحات السودانيين، ويعزز ثقة القوى الخارجية التي انتظرت تحقيق السلام لتقديم مساعدات سخية للبلاد، والمساهمة في تطوير الهياكل الاقتصادية.
يخشى كثيرون أن يفتح التوقيع على اتفاق السلام المزيد من الأزمات، وليس العكس، لأن بعض القضايا التي تم حلها نظريا يمكن أن تنفجر عند دخولها حيز التنفيذ، فهناك شياطين التفاصيل الخاصة بالترتيبات الأمنية في الأقاليم، ودمج العناصر المسلحة في المؤسسة العسكرية، ودفع التعويضات، لم تختبر فعليا على الأرض، ويمكن أن تفجر مشكلات يصعب احتواء تداعياتها.
كما أن مشاركة أطياف سياسية من مشارب متباينة في السلطة المركزية وفي الأطراف قد تحمل معها رؤى متصادمة عند التعامل مع بعض الملفات الحيوية، ربما يكون التوقيع أوقف زحف سيناريوهات غامضة لتدخل قوى خارجية تريد العبث بمصير السودان، ووضع على عاتق المشاركين في السلطة مسؤولية أخلاقية، لكنه فتح الباب لتجاذبات بينهم، فكل قوة تريد تأكيد جدارتها بتمثيل الفئة التي تعبر عنها.
وبدلا من استكمال الفترة الانتقالية، واحتساب العام الذي مضى منذ تدشينها تم التوافق على أن تكون بدايتها منذ التوقيع على اتفاق السلام النهائي، ولمدة 39 شهرا، وهي مدة طويلة وكافية لتفجير المشكلات، لأن غالبية الأطراف سوف تتمترس حول مناطق النفوذ والمزايا والفوائد التي تحصلت عليها بموجب الاتفاق.
كشفت حصيلة مواقف الأحزاب والقوى السودانية من قضايا مختلفة داخل تحالف الحرية والتغيير عن هوة واسعة بين أقطابه، أدت إلى انسحاب البعض، أو التهديد به، وقادت إلى أزمات دفعت الكثيرين ليتخذوا من الحكومة هدفا لهم، ناهيك عن الفجوة بين الشقين المدني والعسكري، الأمر الذي أربك الأداء العام للدولة، وأدى إلى صعوبة الحسم في بعض الملفات، فلا أحد يريد تحمل مسؤولية يمكن أن تطيح به.
تشير التطورات الأخيرة إلى أن الفترة الماضية بكل ما حملته من تراشقات ربما تكون أخف وطأة من الفترة المقبلة، التي يتشارك فيها طيف سياسي واسع، يضاف إليه آخر عسكري بعد دمج عناصر من الفصائل المسلحة في الجيش، وتكفي هذه المسألة لإثارة نعرات مناطقية، إذا لم تكن القيادات المشاركة في السلطة على مستوى المسؤولية.
تحتاج المرحلة القادمة ترتيب الأوضاع بدقة وبما يفضي إلى سودان ديمقراطي يحقق أمنيات المواطنين الذين راهنوا على ثمار الثورة ضد الرئيس السابق عمر البشير، لأن البديل سوف يكون شاحبا، فالمشكلات التي تموج بها البلاد تفرض تكاتف جميع القوى وإبعادها عن المحاصصات التقليدية.
يعيش السودان في كنف مجموعة من الأزمات يكفي انفجار إحداها لتغيير مسار الأحداث، خاصة أن فلول النظام السابق يتربصون بالسلطة، ولن يكفّوا عن استثمار ما يرشح من فجوة بين مكوناتها، بالتالي فأي انزلاق نحو الفتن أو الدخول في خلافات عميقة سوف يمنح هؤلاء فرصة للانقضاض مرة ثانية على السلطة.
لا تزال الجيوب التي تخدمهم نشطة في مؤسسات الدولة، وتستعد لجني أقصى استفادة ممكنة من التناقض بين المكونات الجديدة، وترى أن إمكانية التعايش صعبة، لأن هناك قوى سودانية تسعى لتطبيق الديمقراطية وتعمل في الوقت نفسه ضدها عندما تتعارض مع مصالحها، لذلك فمخاطر ما بعد السلام قد تكون أصعب، ما لم تنتبه القوى الوطنية لجملة من الفخاخ التي تعترض طريقها.