محمود الورفلي قاهر المتطرفين من خارج القانون

قيادي عسكري ليبي ينذر اغتياله بمرحلة جديدة غامضة
الأحد 2021/03/28
بداية صفحة جديدة

تكرّست صورة القيادي العسكري الليبي محمود الورفلي الذي اغتيل قبل أيام كعدو عقائدي للإسلام السياسي وفصائله من خلال إقدامه على تنفيذ عمليات إعدام ميدانية ضد إرهابيين، وبتلك الملامح تحوّل إلى واحد من أبرز الشخصيات الليبية إثارة للجدل. وبينما يطلق عليه مناصروه اسم “قاهر الإرهابيين والخوارج” ويرون فيه رمزا للانتقام من إرهابيي القاعدة وداعش ممن عاثوا فسادا في البلاد، يعتبره الطرف المقابل قاتلًا لا يأبه بالقوانين المحلية والمواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ومعاملة أسرى الحروب.

والجميع يسأل اليوم؛ من وراء اغتيال الورفلي؟ هل هم مقربون منه للتخلص من سجله المثير للجدل؟ أم إرهابيون لا يزالون يجدون الفرصة لتنفيذ مخططاتهم في بنغازي؟ أم جهات استخباراتية قضت عليه في لحظة فارقة لأنها ترى في نهايته دعما للمسار السياسي في البلاد؟

صدام مع المتطرفين

حياة الورفلي ومقتله قصة دراماتيكية لعسكري واجه التطرف بالتطرف، فأصبح من أبرز المطلوبين للقضاء الدولي، واغتيل في لحظة فارقة

ولد الورفلي في التاسع من فبراير 1978 في إجدابيا، إحدى المدن الرئيسية في المنطقة الشرقية وسط أسرة الدعيكي التي تتحدر من قبيلة ورفلة. وهذه القبيلة تعتبر إحدى أكبر قبيلتين في ليبيا إلى جانب ترهونة، ولها انتشار واسع في الأقاليم التاريخية الثلاثة.

بعد دراسته الابتدائية وحصوله على شهادة الثانوية العامة التحق الورفلي بالكلية العسكرية بمدينة سرت، ومنها تخرج ضمن الدفعة 41 بمؤهل في العلوم العسكرية متخصصاً في الشؤون الإدارية بدرجة ضابط عمليات، وشارك في عدة دورات تخصصية منها دورة الصاعقة ودورة أمر سرية دبابات وغيرها.

انخرط في العمل بكتيبة القوات الخاصة “الصاعقة” التي تأسست العام 1970، والتي أعلن قائدها عبدالفتاح يونس الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك في فبراير 2011 الخروج عن نظام العقيد معمر القذافي بصفته رئيس أركان “جيش التحرير الوطني”. وكان ذلك الإعلان تعبيراً عن “عسكرة” الاحتجاجات التي اندلعت شرارتها الأولى من بنغازي.

ثم ما لبث يونس أن اغتيل على يد متشددين كانوا يقاتلون ضمن ميليشيات المجلس الانتقالي الذي اتهم رئيسه مصطفى عبدالجليل بإصدار أوامر بذلك.

بعد الإطاحة بالنظام السابق اعتمادا على التدخل العسكري الخارجي سيطر المتطرفون المرتبطون بتنظيم القاعدة والمعروفون بـ”أنصار الشريعة” على شرق البلاد، وأعلنوا عن قيام إمارتهم في درنة، ودخلوا مرحلة التصفية الجسدية لضباط الجيش والأمن السابقين وللنشطاء الحقوقيين والسياسيين والإعلاميين ورجال الدين المعتدلين. وكانت ذروة تلك التحديات مهاجمتهم لمقر القنصلية الأميركية بمدينة بنغازي ما أدى إلى مقتل السفير كريستوفر ستيفنز وإداري المعلومات الخارجية شون سميث وموظف الأمن الخاص غلين دوهرتي وعشرة من رجال الشرطة الليبية.

كانت بنغازي في تلك المرحلة قد تحولت إلى مخبر دولي لتوطين الإرهاب كنتيجة لمساعي تمكين الإسلام السياسي على الحكم من خلال جناحيه المتشدد “الجهادي” كفاعل ميداني، والإخواني كفاعل سياسي، بدعم مباشر من قوى إقليمية ودولية، وكان هناك اعتقاد بأن شرق ليبيا أصبح خاضعا بالكامل للجماعات الإرهابية تحت غطاء سياسي من سلطات المؤتمر الوطني العام بطرابلس.

لكن رجال الصاعقة وقفوا بقوة في مواجهة المد الإرهابي، وكان المقاتل الأبرز الذي برز في الصورة هو سالم النايلي المعروف باسم سالم عفاريت الذي تعرض والده للاختطاف على يد مسلحي أنصار الشريعة قبل أن يعثر عامل سوداني على رأسه مقطوعة وموضوعة داخل كيس بلاستيكي مرمي على قارعة الطريق قرب محطة غسيل سيارات بمفترق الوحيشي في بنغازي.

كانت تلك الحادثة كافية لتأجيج الحرب بين قوات الصاعقة والجماعات الإرهابية، وبرز عفاريت كأحد أبرز رموز المواجهة إلى أن تم اغتياله هو الآخر، كما كان اسم ونيس بوخمادة المعروف بلقب “الفهد الأسود” قد طبق الآفاق كقائد للقوات الخاصة حين قاد أعنف المواجهات، ومنها تلك التي وقعت ضد الميليشيات المسلحة وأبرزها ميليشيا أنصار الشريعة وميليشيا 17 فبراير التي تم اتهامها بالوقوف وراء عمليات إرهابية واغتيالات في بنغازي، آنذاك قامت القوات الخاصة بالعديد من المداهمات واشتركت في عدة معارك في بنغازي، بالمقابل تعرض المعسكر الرئيسي للقوات الخاصة في بنغازي للعديد من التفجيرات الانتحارية.

كانت تلك الاشتباكات منطلقا لعملية الكرامة التي قادها المشير خليفة حفتر. وكانت قوات الصاعقة بقيادة بوخمادة النواة الأولى التي تشكل منها الجيش الوطني في معركة إعادة بنائه بقيادة حفتر، وكان الورفلي أحد أبرز رموز تلك المرحلة.

المقاتل الشرس

Thumbnail

لمع الورفلي كمقاتل شرس ضد الجماعات الإرهابية وقاد عددا من المعارك الكبرى، منها أول اشتباك مع أنصار الشريعة بجزيرة الفضيل، وشارك بدور مهم في تحرير مستشفى الجلاء التعليمي بمنطقة السلماني، وكان دوره مهماً في معركة منطقة رأس اعبيدة.

كما تزعم معركة الدفاع عن مديرية الأمن، وتصدى لهجوم الإرهابيين على مقر كتيبة شهداء الزاوية، واشترك مع زميله الراحل بوبكر الفسي في قيادة عملية اقتحام مقر درع ليبيا، وفي تحرير مقر الكتيبة 219 ومقر إدارة الدفاع الجوي، وكان له دور حاسم في معارك “بنينا” وغيرها.

كان الورفلي من الضباط الأوائل الذين تقدموا إلى أتون المواجهة، واستلم منذ اليوم الأول ثلاثة محاور، حيث هاجم أوكار الإرهابيين في مناطق عدة، وكان له دور مهم في اقتحام منطقة الليثي، وفي معركة الهواري، ونجح في قيادة قواته إلى صد الهجوم على منطقة بوهديمة، وقاد معارك في القوارشة وبوصنيب إضافة إلى معركة تحرير الصابري. ونظرا لدوره الميداني نال الورفلي رتبة رائد، وعين آمرا لدوريات بالصاعقة كما أشرف على مقر احتجاز واحد على الأقل، ثم رقّي إلى رتبة مقدم.

لا أحد يجادل بأن قوات “الصاعقة” دفعت ثمنا باهضا في حرب تحرير شرق ليبيا من الإرهاب، وقدمت مدن وقبائل برقة الآلاف من الضحايا والجرحى في مواجهات تواصلت لمدة ست سنوات قبل الإعلان رسميا عن تحرير بنغازي، ثم تحرير درنة، وعندها برز دور آخر للورفلي.

الورفلي العبء

اسم الورفلي تردّد في مفاصل هامة خلال السنوات العشر الماضية كرأس حربة ضد الجماعات الإرهابية، فقد قاد عددا من المعارك الكبرى، منها أول اشتباك مع أنصار الجزيرة بجزيرة الفضيل حين تزعم معركة الدفاع عن مديرية الأمن، وكان له دور حاسم في معارك "بنينا" وغيرها

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الورفلي متهمة إياه بتنفيذ إعدامات ميدانية لمدنيين ومقاتلين مصابين بين عامي 2016 و2017، وأفاد بيان القضاة أنه انضم إلى القوة عقب سقوط القذافي، حيث “لعب دورا قياديا منذ العام 2015 على الأقل”.

 ووصل عدد من تولى الورفلي تصفيتهم في العام 2016 إلى 43 من عناصر الجماعات الإرهابية، وقالت وزارة الخزانة الأميركية التي أدرجته في قائمة العقوبات التابعة لها إنه تم تصوير العديد من عمليات القتل التي شارك فيها الورفلي ونشرت على وسائل التواصل الاجتماعي. وأضافت أنه تم تصوير الورفلي وهو ينفذ عملية إعدام جماعي لعشرة معتقلين عزل في بنغازي، حيث أطلق رصاصة على رأس كل شخص، ثم أطلق النار عشوائيا عليهم. كما أمر الورفلي بإعدام ممنهج لـ20 محتجزا كانوا راكعين على ركبهم وغير مسلحين. وفي العديد من تلك الحوادث كان الورفلي يطلق النار على المحتجزين بعد إعدامهم.

عادت محكمة الجنايات الدولية وأصدرت مذكرة ثانية بالقبض على الورفلي، وقالت المحكمة حينها إن لديها أسبابا تدفعها للاعتقاد أن الورفلي قام بنفسه “بقتل عشرة معتقلين بالرصاص خارج مسجد بيعة الرضوان في بنغازي في ليبيا”، مضيفة أنها ثامن واقعة من نوعها يُتهم فيها بالقتل كجريمة حرب. وقالت المدعية العامة فاتو بنسودا إن المحكمة طلبت “مساعدة أي دولة يمكنها أن تكون قادرة على ضمان القبض على الورفلي، وتقديمه من أجل المثول للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية”.

كما طالبت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا بتسليم الورفلي على الفور إلى محكمة الجنايات الدولية، مشيرة إلى أنها رصدت على الأقل 5 حالات إعدام بإجراءات موجزة ارتكبها أو أمر بها في بنغازي، وأدرجت الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول” الورفلي على قائمة المطلوبين متهمة إياه بتنفيذ إعدامات خارج نطاق القضاء.

أعلن الورفلي عن قراره تسليم نفسه لقيادة الجيش، فيما كان مناصروه يتظاهرون في بنغازي ضد مذكرات اعتقاله والمواقف الدولية المنددة بما تراها جرائم ضد الإنسانية، وما يراها داعموه أعمالا مشروعة في معركة التصدي للإرهاب.

عملية الكرامة التي قادها المشير حفتر، تفجرت بعد تصاعد الصراع مع المتطرفين، وكانت قوات الصاعقة النواة الأولى التي تشكل منها الجيش الوطني، أما الورفلي فكان أحد أبرز رموزها. (الصورة من فيسبوك).
عملية الكرامة التي قادها المشير حفتر، تفجرت بعد تصاعد الصراع مع المتطرفين، وكانت قوات الصاعقة النواة الأولى التي تشكل منها الجيش الوطني، أما الورفلي فكان أحد أبرز رموزها. (الصورة من فيسبوك).

بعدها بفترة وجيزة أعلن عن فرار الورفلي من السجن، وهو ما جعل القائد العام للجيش المشير خليفة يصدر أمرا بالقبض عليه كرد فعل على هروبه من السجن العسكري بعد إيقافه للتحقيق معه في عدد من الأعمال التي تعد مخالفة للقانون العسكري وتهدد أمن المواطنين.

عندها أعلنت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ترحيبها بإعلان الجيش الوطني الليبي أنه سيحقق في تقارير عن عمليات قتل غير مشروعة في بنغازي، وقالت الدول الثلاث في بيان “لاحظنا بأن الجيش الوطني الليبي أقر بأمر التوقيف الذي أصدره المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لعضو في الجيش الوطني الليبي الرائد الورفلي، وكذلك نشدد على قرار الجيش الوطني الليبي بتعليق عمل الرائد الورفلي في انتظار التحقيق. وندعو الجيش الوطني الليبي إلى ضمان إجراء التحقيق بشكل كامل ومنصف وكذلك محاسبة المسؤولين عن عمليات القتل غير المشروعة”.

قضى الورفلي ستة أشهر في السجن، ويقول البعض إنه لم يكن وراء القضبان، وإنما تم استبعاده عن الأنظار إلى أن عاد للظهور في ساحات المواجهة أثناء هجوم الجيش على مناطق نفوذ ميليشيات الوفاق.

مثلت شخصية الورفلي حالة دراماتيكية في الجيش الليبي، فهو من جهة يحظى بشعبية جارفة لدى الكثير من أطياف المجتمع، ومن جهة ثانية ينظر إليه أعداؤه كسفاح وقاتل وسافك دماء، وهو مطلوب دوليا، ويعتبر عنوانا للتطرف القاهر للتطرف، حيث يعتقد المقربون منه أنه ينتمي إلى التيار المدخلي السلفي السني المتشدد، والمعادي للإسلام السياسي، والذي ينتشر بقوة في ليبيا وله امتدادات داخل المؤسسة العسكرية في المنطقة الشرقية وفي المؤسسة الأمنية والميليشيات الفاعلة في غرب البلاد.

في الثالث من مارس العام الماضي نشر شريط فيديو للورفلي وهو يقود بعض المسلحين في هجوم على معرض سيارات “تويوتا” في بنغازي، حيث قام بالتكسير والتخريب متهما صاحب المعرض الذي كان آنذاك خارج البلاد بالفساد ونهب المال العام والعبث بأرزاق الليبيين. وفي 24 مارس الجاري أعلن عن اغتيال الورفلي بوابل من الرصاص على أيدي مسلحين في منطقة بلعون بالقرب من مجمع الكليات الطبية في بنغازي، وتم إلقاء القبض على 3 أشخاص مشتبه بهم في تدبير وتنفيذ الاغتيال.

وربما لم يحدث خلال السنوات العشر الماضية أن عُرفت شخصية عسكرية وتشابكت حولها الآراء بين مؤيد ومعارض ومحب وكاره مثلما هو حال شخصية الورفلي. فهل سيكون اغتياله بداية لمرحلة جديدة تطوي صفحة سنوات الحرب برموزها وصراعاتها وأسرارها؟

8