محمد عبدالعليم داود سياسي مشاكس يحارب الخصم والحليف

برلماني يمثل البسطاء يعكس أزمة الأحزاب المصرية. 
الخميس 2021/02/11
جرأة بلا حدود

لا يزال خبر فصل البرلماني المصري محمد عبدالعليم داود من حزبه “الوفد” يتفاعل في المسرح السياسي المصري. بعد أن أعلن المستشار بهاء الدين أبوشقة، رئيس حزب الوفد، عن استبعاد داود من الحزب، إثر أزمته الأخيرة داخل مجلس النواب، بعد وصفه لزملائه في المجلس بـ”نواب الكراتين”، ومطالبته بإعادة المصداقية إلى الإعلام المصري والضجة التي أثارها، ما دفع رئيس المجلس، حنفي جبالي، إلى إخراجه من القاعة وإحالته إلى هيئة مكتب المجلس.

 يقال إن رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل كان يسير يوما بجوار المقابر، فرأى على أحد شواهدها عبارة تقول “هنا يرقد الزعيم السياسي، والرجل الصادق فلان”، فتوقف فجأة، وسأل مرافقيه مستنكرا “كيف يُدفن اثنان معا في قبرٍ واحد؟”.

يلخص ذلك الموقف نظرة البعض الذين يعتبرون السياسي كاذبا بالضرورة، وقد يكون هذا صالحا في غالبية الحالات، خاصة حين نراجع ونبحث في وقائع التاريخ السياسي الحديث، غير أن هناك بعض النماذج القليلة، وربما النادرة التي مثلت خروجا عن هذه القاعدة، بينها داود نفسه، رئيس الهيئة البرلمانية السابق لحزب الوفد، والذي يتحدث دوما بصدقية ونقاء شديدين، يدفعانه في الكثير من الأحيان إلى الصدام مع قوى سياسية عديدة في مصر، بينما يعتبره البعض شخصا حادا وعنيفا ومُحرّضا للجماهير.

 كان تحرّي الرجل للصدق والجهر بما يؤمن أو يرى سببا مباشرا في الواقعة الأخيرة لطرده من مجلس النواب المصري الجديد في بداية جلساته، بسبب انتقاده لحزب “مستقبل وطن”، صاحب الأغلبية في البرلمان، والذي يمثل ظهيرا سياسيا للحكومة، وقوله إن هذا الحزب حاز مكانته بـ”المال والرشاوى الانتخابية”. لكن النائب المخضرم، يرى أن واجبه يحتم عليه أن يقول رأيه بصراحة وصدق، حتى لو كان ذلك الرأي جارحا.

نصير الشغيلة

قبل نحو ربع قرن من الزمان كنت أخطو خطواتي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة، بجريدة “الوفد”، الناطقة بلسان حال ذلك الحزب المعارض في مصر عندما تعرّفت عليه، كواحد من الجيل السابق الذي بدأ العمل مع الرعيل الأول لمؤسسي الجريدة في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. أكثر ما لفت نظري في ذلك الشاب الأسمر، طويل القامة، نحيل الجسد، وصاحب الابتسامة الرائقة جرأته الواضحة وعفويته الشديدة، وإصراره على أن العمل الصحافي يستهدف في الأصل إنصاف الناس، وحلّ مشاكلهم، وتوصيل أصواتهم إلى الجهات العليا.

"صحافي الغلابة" اللقب الذي يلازم داود، يعني أن كل توجهاته وقناعاته ومواقفه ترتبط ارتباطا وثيقا بتصورات العمال والفلاحين والعاطلين ومصالحهم العامة

كان داود المولود في يوليو 1961، بمحافظة كفر الشيخ، شمال القاهرة، صحافيا متخصصا في متابعة قطاع العمال، ومُنغرسا في مشكلاتهم وهمومهم الصاخبة، وواعيا بحقوق العمل القانونية والدولية، ومنحازا لقضايا مُجتمع الشغّيلة في أيّ مكان باعتبارهم محلّ ضغوط واستغلال دائم، من قبل الحكومة أو الكثير من أصحاب الأعمال.

بدا حضوره طاغيا في أزمات عديدة، تجاوز فيها مُهمة ناقل الخبر، أو المعلومة، إلى مشارك أساسي في الحدث المُعنى بتغطيته، فإيمانه بحقوق الغلابة أو المُهمّشين كان كثيرا ما يدفعه إلى الاشتعال حماسا لمطالبهم، ثمّ المشاركة في إعلانها، والتحوّل إلى صوت مَن لا صوت لهم. ومن هنا كانت مناقشاتنا تدور حول تجاوزه لفكرة حيادية الصحافي، أو اكتفائه بمجرد تسجيل الحدث ليتورّط في القضية تدريجيا، ويصبح منحازا إلى العمال البسطاء ومساندا لمَن يعتبرهم يحتاجون المساندة.

دلف داود تدريجيا إلى الطبقات الأدنى، وصادقهم، واقترب من أوجاعهم وصار يشعر بأن انتماءه الحقيقي هو انتماء إلى الناس أولا وثانيا وثالثا، صحيح أنه كصحافي يجب أن يكون مهموما بكل شجون الناس، لكن اللقب الذي لازمه بأنه صحافي الغلابة فقط، من العمّال والفلاحين والعاطلين، ما يعني أن كل توجهاته وقناعاته ومواقفه ترتبط ارتباطا وثيقا بتصوراتهم ومصالحهم العامة. وأن انتماءه إلى حزب الوفد، ذلك الحزب الليبرالي الذي تأسس قبل نحو مئة عام، كان فيه أقرب إلى التيار اليساري، الذي يُسميه بعض المؤرخين بتيار الطليعة الوفدية، وهو تيار ينتصر لحقوق الفئات الأدنى، ويتبنّى خطاب العدالة الاجتماعية، ويكافح من أجل إسعاد الطبقات المهمّشة.

شعبوية أم مشاركة

جرأة داود وصدقيته تدفعانه إلى الاحتجاج بصوت مرتفع، زاعماً أن حزب الأغلبية “مستقبل وطن” فاز في الانتخابات بالمال السياسي، وتصريحاته تلك كانت لها ارتدادات عديدة عكست ما يجري في الحياة السياسية المصرية
جرأة داود وصدقيته تدفعانه إلى الاحتجاج بصوت مرتفع، زاعماً أن حزب الأغلبية “مستقبل وطن” فاز في الانتخابات بالمال السياسي، وتصريحاته تلك كانت لها ارتدادات عديدة عكست ما يجري في الحياة السياسية المصرية

كانت سمة الشعبوية التي اكتسبها داود من عمله بالصحافة في بدايات طريقه، هي التي دفعته إلى أن يذهب يوما إلى تغطية معرض صناعي بالقاهرة في مارس سنة 1985، وبدلا من أن يكتب عن المعروضات في المعرض من الصناعة المحلية والأجنبية، انتفض مع الشباب الغاضب بسبب مشاركة إسرائيل في المعرض، وتظاهر إلى جوارهم، وشارك معهم في الاحتجاج، ليتمّ القبض عليه بتهمة إحراق علم إسرائيل، ويقضي وقتا محبوسا في سجن الاستئناف.

بعد الإفراج عنه، ارتفعت أسهم الصحافي الشاب، ولمع اسمه بسرعة، وصار مدعوّا إلى المشاركة في الكثير من الفعاليات السياسية ذات الطابع الوطني. ومع الوقت، امتزجت أحلام السياسي في نفسه، بشعبية نامية اكتسبها في بلدته الأصلية مطوبس، بمحافظة كفر الشيخ، نتيجة تبنيه للكثير من مطالب الفقراء فيها، فقرر أن يخوض الانتخابات البرلمانية ممثلا لها.

 ورغم تواضع إمكانياته المادية، خاض الرجل معركة شرسة في انتخابات البرلمان المصري سنة 2000 تحت لافتة حزب الوفد وحقق انتصارا مدويا، حيث حصل على 27 ألف صوت، كانت وقتها رقما كبيرا في دائرته، ليُصبح بذلك نموذجا لصحافي عمالي، يراه البسطاء واحدا منهم.

أبرز ما يُميّزه جرأته التي لا حدود لها، انطلاقا من حصانة البرلماني التي تسمح له بمراقبة أداء الحكومة مراقبة حقيقية، وهو لم يكن باحثا عن مكاسب مادية، فلم يسع يوما إلى الحصول على أراض أو يتورّط في الاتجار بالخدمات، مثلما كان شائعا بين الكثير من نواب البرلمان في ذلك الوقت، إنما كان معنيا بأصحاب الحاجات، مؤمنا أنه مُكلف أمام الله بقضائها.

تواضع إمكانات داود المادية لم يقف حائلا دون خوضه معركة شرسة في انتخابات البرلمان المصري سنة 2000 حين حقق انتصارا مدويا، بحصوله على 27 ألف صوت، كانت وقتها رقما كبيرا في دائرته

 ربما مات الصحافي داخله، وتوهّج السياسي المكافح، فلم يعد حتى يكتب عن أمور بعيدة عن مشاكل الطبقات الدنيا وهمومها، ومع الوقت باتت الحسابات السياسية بعيدة عن ذهنه وهو يصول ويجول يمينا ويسارا مهاجما ومنتقدا، وصادقا في نقل ما يؤمن به أو يعتقده.

للرجل مواقف حادة وعنيفة مع من اعتبرهم يمثلون فئة الكبار، ووصل به الأمر إلى حدّ اتهامه لهم بالفساد عدّة مرات في جلسات علنية، ففي جلسة شهيرة سنة 2001 كشف داود أن هناك وزراء في الحكومة أثروا ثراء فاحشا دون وجه حق، وحصلوا على أراض ومكاسب خاصة وتاجروا بها.

في مرة أخرى نجده غاضبا ومشتعلا وهو يرفض كذب الآلة الإعلامية الخاصة بالحكومة عندما كانت تروّج لإنجازات الرئيس الراحل حسني مبارك في 2005، إثر ترشحه لفترة رئاسية جديدة، وقام بتمزيق البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك علنا، بعد تأكيده كذب ما جاء فيه.

كما كان أحد الذين قاوموا خصخصة الشركات الحكومية وتسريح عمالها بقوة وضراوة، ووصل به الأمر إلى حدّ المطالبة بمحاكمة رئيس الحكومة، وبعض الوزراء بشبهات فساد في بيع بعض الشركات، وهو ما تسبب له في عداءات عديدة وحادة.

لم يكن غريبا أن يتكرر حضور داود في برلمانات تالية، ليفوز بنحو 23 ألف صوت في انتخابات عام 2005، ثم خاض انتخابات البرلمان في 2010 مستقلا بعد قرار حزب الوفد مقاطعة الانتخابات على إثر التزوير الفاضح في الجولة الأولى، وفاز فيها أيضا. وكان قراره وقتها مبنيا على فلسفة عدم قدرته على خذلان أهالي دائرته الذين ساندوه ووقفوا إلى جواره، ثُم نجده حاضرا بقوة في انتخابات 2012 ليفوز ويتمّ اختياره وكيلا لمجلس النواب.

ما الذي يجري داخل الوفد؟

انتماؤه إلى حزب الوفد الليبرالي الذي يعود تأسيسه إلى نحو مئة عام مضت، كان فيه داود أقرب إلى التيار اليساري، الذي يُسميه بعض المؤرخين بتيار الطليعة الوفدية، وهو تيار ينتصر لحقوق الفئات الأدنى، ويتبنى خطاب العدالة الاجتماعية
انتماؤه إلى حزب الوفد الليبرالي الذي يعود تأسيسه إلى نحو مئة عام مضت، كان فيه داود أقرب إلى التيار اليساري، الذي يُسميه بعض المؤرخين بتيار الطليعة الوفدية، وهو تيار ينتصر لحقوق الفئات الأدنى، ويتبنى خطاب العدالة الاجتماعية

يُمكن القول، إن الاضطرابات السياسية التي شهدتها مصر في السنوات التالية لانتفاضة يناير 2011 أدّت إلى انزواء الكثير من السياسيين، وساهم اتساع الاستقطاب السياسي في تفضيل البعض منهم الخروج من المشهد، غير أن داود الذي جُبل على المواجهة استبعد الحسابات ورفض الانزواء مُفضلا دخول معركة كان أكبر ما يميزها قوة تأثير الإمكانات المالية، ونجح في انتخابات 2020 في حصد أكثر من ثمانين ألف صوت.

إذا كانت صدقية الرجل دفعته مؤخرا إلى القول إن حزب الأغلبية “مستقبل وطن” فاز في الانتخابات بالمال السياسي، فتلك الواقعة كانت لها جوانب إيجابية عديدة، ربما أبرزها تأكيد شعبيته بين أبناء دائرته وتعضيد ثقتهم فيه.

 أعاد داود إلى الأذهان دورا بدا غائبا عن حزب الوفد، الذي لم يلعب دورا معارضا حقيقيا منذ يونيو 2013 بحجة مساندة الدولة المدنية في مواجهة التيار الديني، وساهم ذلك في إصرار أعضاء الهيئة العليا لحزب الوفد على اختياره رئيسا للهيئة البرلمانية الوفدية. وبعثت الواقعة برسالة إلى حزب الأغلبية، مفادها أن هناك مقاومة لفكرة استغلال المال في تغليب قدرة أيّ سياسي، وتأكيد أن حكاية الحزب الوطني المنحلّ، الذي حكم خلال عهد مبارك، غير قابلة للتحقق مرة أخرى.

كما كشفت الواقعة أيضا أنه من الممكن معارضة الحكومة، وانتقاد الكثير من سياساتها والتحفظ على توجهات حزب الأغلبية من خلال أرضية وطنية مقبولة شعبيا، وبعيدا عن استهداف جماعة الإخوان لاستقرار الدولة المصرية.

داود، سبق وأن خاض حروبا وصراعات شرسة إلى جوار الحكومة المصرية، استنادا إلى أرضية مشتركة تستهدف المصلحة العامة، وأبرز معاركه خارج نطاق مراقبة الحكومة ومساءلتها معركته في قضية التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية

فهناك انتقادات متكررة توجّهها الجماعة المصنفة إرهابية في مصر إلى كافة الإنجازات والمشروعات والسياسات الحالية، لكن ذلك لا يجب أن يعني أن كل انتقاد أو تحفظ على سياسات الحكومة يعني أن أصحابه يقفون في المعسكر ذاته، فثمة معارضة وطنية، تحاول مقاومة فكرة الصوت الواحد، والتوجه الواحد، إيمانا بأن التعددية في طرح الآراء والتوجهات، هي الحل الأمثل لأيّ مشكلات قائمة أو متوقعة.

حسبنا معرفة أن داود، سبق وأن خاض حروبا وصراعات شرسة إلى جوار الحكومة المصرية، استنادا إلى أرضية مشتركة تستهدف المصلحة العامة، وأبرز معاركه خارج نطاق مراقبة الحكومة ومساءلتها معركته في قضية التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية، حيث اعتبره يمثل خطرا على الدولة، وكان داود واحدا من أهم المناوئين للتمويل الأجنبي للجمعيات، لأنه ارتبط بشكل وثيق بالتأثير في السياسة الداخلية لمصر، وتقدم بأكثر من بلاغ إلى الجهات القضائية لكشف ومتابعة تقديم أموال لكيانات لها علاقة بالسياسة من خلال العمل الأهلي، ولا يزال الرجل يرجل في خندق الدولة الوطنية، لكن من زاوية بعيدة عن القوى الحزبية الملتصقة تماما بالحكومة.

ويمكن القول أن الاهتمام الكبير بما جرى مؤخرا في الحزب ينبع من إدراك النخبة السياسية في مصر لقيمة وتاريخ حزب الوفد الذي مثل على مدى مئة عام النموذج الليبرالي الأجدر على مقاومة وصد التيار الديني وتحييد خطره على المجتمع. لقد كان التساؤل المتكرر في الشارع السياسي المصري خلال الأونة الأخيرة : أين الوفد من مقاومة المد الديني؟ وأين الوفد من دعم قضايا التنمية ؟وأين الوفد من دعم الاستقرار ونشر الوعي في المجتمع؟ ومتى ينفض الحزب الكبير عن كاهله إرث الخلافات والمشاحنات؟ وكيف؟

فهل ما جرى مؤخرا يمكن أن يحمل أجابات واضحة على مثل هذه التساؤلات.؟

12