محمد سيف المفتي لـ"العرب": من السذاجة تفسير الأحداث بالمؤامرة

عوالم المتطرفين ليست فقط كما يذكرها الإعلام، هناك أمور أكثر تعقيدا وتحتاج إلى رؤى أعمق من مجرد نقل الخبر. الكثير منا يعرف أشخاصا لطفاء فجأة تحولوا إلى ممارسي عنف وإرهابيين مطلوبين، ويتساءل ما الذي حدث لهم؟ هذا السؤال طرحه الكاتب النرويجي – العراقي محمد سيف المفتي الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.
"رقصة داكنة" رواية تعيش حيوات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من الداخل، كيف يمارس أعضاؤها أيديولوجياتهم على أرض الواقع، كتبها الكاتب والمترجم النرويجي من أصل عراقي محمد سيف المفتي حول أناس حقيقيين وأحداث فعلية في العراق والنرويج عام 2014.
يوثق الكاتب للفظائع التي ارتكبها التنظيم في كل من العراق وسوريا، وذلك انطلاقا من حياته العائلية الخاصة، جنبا إلى جنب ما حصل عليه من معلومات مما حدث خلف كواليس داعش، ومقابلات حقيقية مع مقاتلين أجانب في السجون النرويجية، ليقدم نظرة ثاقبة للحياة الداخلية للشخصيات الرئيسية، ويشكل رؤية إنسانية وجمالية متكاملة عن داعش ومجتمعه والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها.
يقول المفتي الذي ترجم روايته عن النرويجية وصدرت أخيرا عن دار العربي، ويستضيفه معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ55 حيث يحتفل بصدور الترجمة العربية، “اندلعت شرارة صغيرة في مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) قبل أربعة عقود أحرقت يدي، إلا أنها علمتني الكثير. نعتقد أن بعض الأحداث التي تمر بنا هي بدايات ويتضح لنا لاحقا أنها النهاية لمرحلة من مراحل الحياة، إلا أنها في كلا الحالتين تعلمنا الكثير. وهذا بالضبط ما حدث معي قبل أربعة عقود وجعلني أكتب هذه القصة كما كتبتها بهذه الطريقة اليوم”.
ويضيف “دعوني أصحبكم معي إلى مدينة الموصل ونحن الآن بالضبط في ثمانينات القرن الماضي، نشأت في تلك المدينة مجموعة معارضة لنظام الحكم مؤلفة من حوالي خمسين شابا، كنت واحدا منهم وكان لي صديق اسمه نشوان عبدالباقي. وكان شابا يمكنني وصفه دون مبالغة بأنه كان رجلا حقيقيا، لما امتلكه من طيبة ومروءة”.
ويتابع “كنا ندعو إلى السلام ونمقت الحرب الدائرة بين العراق وإيران (1980 – 1988). نشوان كان مؤمنا مثلي بأن الوقوف بوجه النظام الدكتاتوري هو خير جهاد، وذلك بالضبط في الوقت الذي افتتحت فيه مكاتب الجهاد الأفغاني وتم تسهيل سفر من كانوا يعتقدون أنهم مجاهدون إلى أفغانستان بمباركة معظم دول الجوار. ما إن كان يطرق سمع نشوان أن أحد الشباب قد عقد النية للتوجه إلى أفغانستان والمشاركة في الجهاد هناك حتى يهرع إليه ويقنعه بالعدول عن قراره قبل فوات الأوان، وقد وفق بإقناع الكثير من الشباب، وعدلوا عن قرار السفر إلى أفغانستان”.
التحول إلى العنف
ويذكر المفتي كيف استمر نشاطهم غير القانوني والذي وصل إلى كتابة شعارات مناوئة للنظام على الجدران في أحيائهم وتوزيع مناشير، وهي نشاطات كانت ستكلفهم حياتهم، خصوصا في مدينة الموصل التي كانت تؤيد النظام إلى حد كبير، ولم توجد فيها فرص للاختباء لا أهوار ولا مغارات في الجبال، كما هو الحال في جنوبي وشمالي العراق.
ويتابع الكاتب “في أحد أيام التسعينات حدث ما كنا نخشاه، إذ كنت في بغداد عندما اتصل بي صديق محذرا من العودة إلى الموصل، لأن أمرا بإلقاء القبض على نشوان قد صدر، وتمكن هو من الهرب من بيته في اللحظات الأخيرة قبل مداهمته من قبل قوات الأمن التي بحثت عنه في كل أركان المدينة بعد أن ترك وراءه أدلة دامغة تثبت نشاطه المناوئ لنظام الحكم، وتم إلقاء القبض على والده وعلى صديق آخر، وبقيت كلمات هذا الصديق تؤرقني ‘إياك أن تعود إلى الموصل في هذه الفترة’. بقيت بعيدا عن الموصل حتى هدأت الأمور وعدت إليها بعد أشهر وأبلغني الأصدقاء بأنهم لا يعلمون بما حل بصديقنا، إلا أنني سمعت بعد عام أنه قد وصل إلى أفغانستان ذلك المكان الذي كان يحذر الشباب من الرحيل إليه”.
ويلفت “في عام 1997 غادرت العراق باحثا عن ملاذ آمن لم أكن أعلم إلى أين أمضي، ثم وضعت أحمالي في النرويج، أتقنت اللغة سريعا ودخلت معترك الحياة لكي أعوض ما خسرته. في عام 2006 وبينما كنت جالسا في بيتي أتابع الأخبار بعيدا عن بلدي بآلاف الأميال، ظهر أمامي خبر مفاده أن السلطات التركية تمكنت من إلقاء القبض على عبدالهادي العراقي، والذي يعتبر الذراع اليمنى لأسامة بن لادن الجناح العسكري. رن جوالي وكان المتصل صديقا مقربا ليبلغني بخبر جعل العالم ينقلب أمامي مفاده أن عبدالهادي العراقي الظاهر أمامي في الشاشة هو صديقنا نشوان عبدالباقي”.
ويتابع “دهشت كيف يمكن لنشوان أن يتحول من مدافع عن السلام إلى إرهابي ينشر الرعب في هذا العالم؟ بدأت بعدها بالبحث في قضيته، كيف يمكن لإنسان يرفض حمل السلاح ويؤمن بالسلام أن يتحول خلال فترة قصيرة إلى شخصية راديكالية متطرفة، وتوصلت خلال السنوات التالية إلى فهم بعض التفاصيل عن حياته وسفرته ولكن بقيت الكثير من الظروف ألغازا لها شفرات معرفية بعيدة عن المفاهيم العامة لا يمكن حلها بسهولة”.
يؤكد المفتي “نقطة التحول في تفكيري جاءت في عام 2014 عندما اختطفت مدينتي الموصل وضاعت بيد داعش كما ضاع صديقي ذات يوم في أحضان القاعدة، في ظلام الموصل حينها والذي يعاني من نقص الأمل قررت حمل مشعلي باحثا عن حقيقة ما يحدث، وخصوصا بعد اختطاف التنظيم شخصا من أقربائي، وفي هذه المرة قررت أن أفهم أكثر لماذا الموصل وليس مدينة أخرى؟”.
وبقي دافع الاستكشاف والبحث يدفع الكاتب إلى فهم الحقائق، من الغرب إلى العراق إلى القاعدة وفكرها والدولة الإسلامية، عوالم غريبة ومخيفة. بسبب هذا العمل دخل كمستشار في منظمة يوترن النرويجية التي تقوم بإلقاء الضوء على أسباب الراديكالية والأفكار المتطرفة وأيديولوجيات المنظمات الإرهابية من جهة وإعادة التأهيل من جهة أخرى. ويضيف “في عام 2020، وفي صباح أحد أيام مارس كنت قد ألقيت محاضرة عن الراديكالية وتناولت موضوع عبدالهادي العراقي وعدت إلى البيت لأضع لمساتي الأخيرة على الرواية التي هي بين يديكم الآن، اتصل بي المستشار الأقدم في المنظمة Atle Mesoy ليخبرني بأن الباحث النرويجي العالمي Thomas Hegghammer عنده حفل توقيع لكتابه القافلة عن عبدالله عزام الأب الروحي للجهاديين العرب في أفغانستان ‘The Caravan’ وذلك في العاصمة أوسلو وقد حجز لي مقعدا فذهبت”.
حقيقة ما حدث
ويتابع “بعد الانتهاء من اللقاء مع المؤلف في قاعة تعج بالمهتمين والاختصاصيين فتح المجال للجمهور لطرح أسئلته، طرحت سؤالا وهو ‘هل يمكن أن تكون هناك أطراف داخلية أرادت التخلص من عبدالله عزام فأبلغت عن ساعة وصوله؟’ أمال الباحث العالمي رأسه وأجابني ‘لا أعتقد’. فكر قليلا وقال ‘لا أتصور’. قاطعته طارحا عليه سؤالا آخر ‘هناك شخصية أخرى عبدالهادي العراقي، تم الإبلاغ عنه بواسطة شخص مجهول الهوية اتصل عدة مرات لتعزيز المعلومات، معلومات لا يعرفها إلا رجال من القاعدة المركز’. أجابني ‘قد يكون هذا ما حدث'”.
ويتابع المفتي “في الاستراحة وبينما كنت أشرب القهوة وأتبادل الحديث مع بعض الحضور، وقفت أمامي امرأة فارعة الطول عرفت نفسها بمستشارة في مؤسسة البحوث العسكرية، لتسألني إن كنت أعرف عبدالهادي العراقي، أجبتها بأنه صديق مقرب وصديق طفولة. أخبرتني أن محاميته والتي على تواصل مستمر معه في معتقل غوانتانامو قد عملت بشكل حثيث لعشرة أعوام لتصل إلى أحد أصدقائه أو أحد معارفه قبل خروجه من العراق بلا جدوى، شخص يعرفه مذ كان ضابطا في الجيش العراقي”.
ويضيف “استوقفتها مصلحا لها معلومة أنا على يقين منها أن نشوان لم يكن يوما ضابطا في الجيش العراقي. اندهشت لأن المعلومة تتعارض مع كل ما اعتبرته السلطات مسلمات وسألتني بحذر ‘هل تمانع الحديث مع محاميته؟’ أخبرتها أنني لا أمانع بالتواصل معها وبالفعل تحدثت إليها مرات عديدة عبر الهاتف وبعد ذلك زارتني في النرويج يرافقها فريق العمل. ومن خلال هذه العلاقة تمكنت من الاطلاع على مراسلات بين طالبان، القاعدة، أسامة بن لادن وكذلك نشوان، بالإضافة إلى قرار الاتهام”.
ويبين أنه لكون أن اللغة هي ميدانه اكتشف ما لم يفهمه حتى الأميركان، كيف تلاعبت جهات في القاعدة تابعة لمجموعة الجهاد المصري وعلى رأس القائمة الظواهري بعقل أسامة بن لادن من جهة وبالعالم من جهة أخرى، وكان هو وسيف العدل، وهو مصري من قيادات الصف الأول لتنظيم القاعدة، وهو المنظر العسكري للتنظيم ومجموعتهم المسيطرين فعليا على مجريات الأحداث وهم من يصدرون القرارات على لسان بن لادن والذي كان أشبه ما يكون بالرجل الآلي، وذلك من خلال السيطرة على المعلومة واختيار الكلمات والرسائل التي تصل إليه. وذلك منذ 2001 وحتى 2005 في الفترة التي عاشها بن لادن متخفيا وكانت المعلومات تفرز وتصل وفق مصالح مجموعة الظواهري إليه.
ويقول المفتي “بعد أن أصرت طالبان على الاتصال المباشر مع بن لادن وأصرت على إرسال عبدالهادي العراقي إلى العراق ليأخذ مركزا مهما أو يكون بديلا لأبي مصعب الزرقاوي، وهو قيادي أردني في تنظيم القاعدة وكان زعيم مجلس شورى المجاهدين في العراق حتى اغتياله عام 2006، وتم بالفعل إرساله إلى العراق مرورا بإيران ومن ثم تركيا. إلا أنه بعد اطلاعي على ما يدور في رؤوس بعض القيادات المصرية وخلافهم مع العراقي وذلك من خلال المراسلات وفرز المعلومات التي ستصل إلى أسامة بن لادن وما يجب حجبه، ساورتني بعض الشكوك بشأن تسليمه والتخلص منه على يد السلطات التركية".
ويبين أنه تأكد من مصادر غير رسمية أنه تم تسليم ثلاث شخصيات قيادية لم تكن تتعاون مع مجموعة الجهاد المصري إلى السلطات العراقية بنفس الطريقة، وتمت تصفيتهم في نفس المنطقة الجغرافية بين الموصل وبغداد. ويختم “هذه الأحداث التي تجاوزت الحدود الجغرافية وعامل الزمن منحتني رؤية جديدة أوضحت لي أن الحرب بالاستعاضة ليست إمكانية متاحة فقط للكبار، فعدت أدرس ما حدث في الموصل في عام 2014 وبدأت أرى الكثير من الأمور بذات الرؤية، التي منحتني كذلك إمكانية رؤية العالم بطريقة جديدة وفهم جديد مفاده أنه من السذاجة تفسير الأحداث بالمؤامرة، علينا دائما البحث عن المستفيد والنظر إلى ميزان المصالح، أمر قد يجعلنا نرى المنتصر خاسرا والعكس صحيح، أعدت كتابة الرواية كي أعير رؤيتي لهذا العالم ليرى أن الكثير من الحقائق ليست حقائق”.