محمد بنيس شاعر حداثي مغربي طالع من عالم مضطرب

أعد منتدى أصيلة الثقافي، في دورته الأخيرة، كتابا متميزا بعنوان “كلام اللانهائيّ”، متضمنا نصوصا لمجموعة من المؤلفين من أصدقاء المحتفى به محمد بنيس، ومن النقاد، والباحثين الذين واكبوا تجربته الشعرية والنقدية في مختلف مراحلها من أمثال سلمى الخضراء الجيوسي، وأدونيس، والأسباني خايمي سيليس، والفرنسي برنار نويل، والمصري حسن حلمي، والبحريني قاسم حداد، والمغربي المهدي أخريف، وآخرين.
وينتسب محمد بنيس المولود بفاس عام 1948 إلى جيل أواخر الستينات من القرن الماضي. وكانت المرحلة التي بدأ فيها يخطو خطواته الأولى في عالم الشعر والأدب صعبة على مستويات متعددة.
عالم من خراب
يمكن القول إن محمد بنيس انبثق من الخرائب، خرائب عالم كان ينهار بسرعة وعنف، عالم قديم خربت بناه وتفتتت فما عاد قادرا على ضمان وجوده، وخرائب لغة تكلست وتعطلت قدراتها فباتت عاجزة عن المسك بالواقع الجديد الذي كان يولد بعسر وبطء، وخرائب مدينة فاس المثقلة بجراح التاريخ، والحاملة لتراث فقهي وديني أثر في حياة أهلها، وفي تفكيرهم، وفي عاداتهم، وتقاليدهم على مدى قرون مديدة، جاذبا إياهم إلى الوراء دائما ليعيشوا الماضي، لا الحاضر ولا المستقبل.
كما انبثق محمد بنيس من يتم مبكر. فقد غيّب الموت أمه وهو لا يزال صبيّا ينظر إلى العالم من حوله بدهشة وذهول. لذلك سيعيش في ما بعد حياته باحثا في الكلمات والألفاظ والصور الشعرية عما يمكن أن يساعده على التخلص من الخراب ومرارة اليتم، ويحرّره من تراث موسوم بالجمود والسكون واليبس الروحي والقحط الفكري.
ولعله اكتشف في فترة البحث والحيرة أن الشعر هو المنقذ، وهو الملاذ. وهو الوسيلة الناجعة لمواجهة مصيره. والشعر هنا لا يعني القوافي والأوزان، وإنما يعني تلك الموسيقى الخافتة الشجية التي تعيد للروح توازنها، وتلك الرؤية الفلسفية التي تساعد الفكر على التحرر من قيود الماضي، وعلى التسلح بأدوات نقدية حديثة لمواجهة الواقع. لذلك قرّر أن ينذر حياته للشعر في معناه الواسع والعميق، ويصرف جهوده له فلا يتخلى عنه، ولا يخونه أبدا.
كما اكتشف محمد بنيس أنه وأبناء جيله الذين كانوا مسكونين مثله بالرغبة في تأسيس ثقافة جديدة، وابتكار لغة جديدة، وفي استحداث أدوات جديدة تعكس الواقع والعصر، يتحتم عليهم أن يبدأوا من الصفر. فلا سند لهم في الماضي ولا في الحاضر. ولا من معين لهم غير أن يغامروا لضمان نجاح مشروعهم الثقافي والمعرفي والإبداعي.
وهكذا شرع بنيس في العمل بثبات وإصرار غير عابئ بجسده الهزيل، والمعطوب، وبندرة الإمكانيّات وانعدامها في غالب الأحيان. ورغم العراقيل التي كانت تنتصب أمامه بعد كلّ نجاح يحققه، فإنه رفض الانسحاب والاستسلام والعودة إلى الجحور المظلمة، ملجأ الفاشلين والجبناء، وظلّ ممعنا في العمل ولا هدف له غير أن تصبح للمغرب الخارج للتو من المرحلة الاستعمارية القاتمة، ثقافة جديدة تكون فيها اللغة منسجمة مع الواقع والحياة، وفيها يكون الفكر منفتحا على الآفاق الإنسانية.
بنيس اكتشف في فترة البحث والحيرة أن الشعر هو المنقذ وهو الملاذ والوسيلة الناجعة لمواجهة مصيره
مشروع ثقافي
أدرك محمد بنيس، منذ البداية أن هناك أفقين معرفيين يمكن أن يساعداه على المضيّ قدما في مشروعه: الأفق الأول هو المشرق العربي الذي كان في الستينات من القرن الماضي غنيّا بالأفكار والأطروحات التقدميّة والطلائعية المتطلعة للتجديد والابتكار والخلق، والساعية إلى القطع مع ماض ثقيل، ومع تراث يبدو شبيها بقبر معتم.
أما الأفق الثاني الذي تطلع إليه بنيس، وهو يعدّ مشروعه الشعري والثقافي والنقدي، فهو الأفق الغربي، من خلال الأفق الفرنسي تحديدا. فقد كانت تلك الفترة، فترة الستينات، حبلى بالأفكار والأيديولوجيات الثورية، والنظريات النقديّة والفلسفية الجديدة. وقد انعكست تأثيرات كلّ هذا على جميع التعابير الأدبية والكتابية من قصة ورواية ونقد. كما انعكست على السينما، وعلى المسرح، وعلى فنون أخرى.
وكان لقاء الشاب محمد بنيس بالمفكر والمبدع المغربي الراحل عبدالكبير الخطيبي حاسما ومفيدا من هذا الجانب، إذ أنه ساعده على التعرف على المناخات وعلى الروافد الجديدة في الثقافة الغربية المتجسدة بالخصوص في أعمال بارت، وتشومسكي، وفوكو، ودريدا، وغيرهم، تمّ اللقاء الأول سنة 1970. وفي الحين توطدت العلاقة بين الشاعر الشاب، والمفكر المميز لتكون لا عاطفية فقط، بل إبداعية وفكرية شملت الشعر والتصوف والخط والثقافة الشعبية. ثمة جانب آخر في مسيرته تتوجب الإشارة إليه. ففي نهاية الستينات، وبداية السبعينات من القرن الماضي، كانت الأجيال الجديدة في البلدان الغربية الرأسماليّة، وأيضا في العديد من بلدان العالم الثالث، ومن ضمنها دول عربية، متحمسة للثورات التقدمية واليسارية. وكانت رموز هذه الأجيال الزعيم الصيني ماتوسي تونغ، وقائد الثورة الفيتناميّة هوشي منه، وتشي غيفارا، والمناضلة الأميركية أنجيلا دافيس..
أما بنيس فقد أدرك أن الانصراف إلى النشاط السياسي سيلحق أضرارا جسيمة بمشروعه الشعري والثقافي الذي كان في طور البلورة والتأسيس. كما أدرك أن الثقافة في مفهومها العميق هي القاعدة الصلبة للتحولات التي يتطلع إليها المجتمع المغربي، إذ كيف يمكن أن يتحقق النجاح للثورات بينما الأمية لا تزال منتشرة، والماضي لا يزال يشد المغاربة إلى الوراء، سادا الآفاق أمامهم. من هنا نفهم لماذا سارع محمد بنيس في تلك الفترة القاتمة والصعبة من تاريخ المغرب إلى تأسيس مجلة “الثقافة الجديدة” التي ستلعب دورا مهما في تحديث الثقافة المغربية في جميع تجلياتها، وتعبيراتها، وستكون بمثابة الرباط المعرفي والثقافي بين المغرب والمشرق، ونافذة على الثقافات العالميّة.
والحداثة التي بشرت بها مجلة “الثقافة الجديدة” لم تكن “حداثة معطوبة” كما وصفها بنيس نفسه، أي تلك التي تعني القطيعة السلبية والعقيمة مع الماضي، وإنما حداثة تأخذ من هذا الماضي ما يرسخها في الواقع، وما ينيرها، ويوسع تأثيراتها في المجتمع.