محمد بركة لـ"العرب": لا أنافق القارئ ولا أقدم له ما يطلبه

الشجاعة والجرأة مطلوبتان في كل كاتب، أو كيف يمكنه اقتحام المسكوت عنه والاشتباك مع الواقع وتقديم أطروحات مختلفة عن السائد تعري الهامش وتسائل تفاصيله وتغوص في خفايا الشخصيات والقضايا، وهذا ما يؤمن به الأديب المصري محمد بركة الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار حول رؤاه في الكتابة والكتّاب.
القاهرة - يخوض الأديب المصري محمد بركة مغامرة أدبية، بروايته الصادرة حديثا بعنوان “مهنة سرية” عن دار أقلام عربية للنشر والتوزيع في القاهرة، وتدور أحداثها حول حياة بطلها الذي يمتهن بيع المتعة الجسدية للسائحات الأجنبيات في مدينة شرم الشيخ الساحلية بمصر.
تغوص الرواية لتشتبك تحت سطح الحكاية الأصلية مع تفاصيل واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي في مصر قبل ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، مع تشريح نفسي لخبايا الشخصيات؛ أسرارها وتطلعاتها وأحلامها، واستعراض القواعد الحاكمة لمهنة البطل بما يضمن استمرار عمله بغرض جمع المال، ما شكَّل تحديّا أمام الكاتب نجح فيه عبر السير على حبل مشدود كي لا يسقط في هوة الابتذال.
ظلال وهوامش
محمد بركة لا يركض وراء أحدث صيحات الكتابة الأدبية أو وراء ادعاءات كاذبة تسخدم مقولات "ما بعد الحداثة" كمساحيق
تسأل “العرب” بركة عن رؤيته حول استخدام الجنس في الأدب، ما قد يمثل سلاحا ذا حدَّيْن، وكيفية توظيفه أدبيّا لتقديم أفكار ورؤى حول الواقع والحياة، لاسيما في مجتمعاتنا العربية التي توصَف بالمحافَظَة.. فهل انتابه القلق من رد فعل القارئ؟ ليقول إنه في بداياته الأولى كان أكثر نزقا وتهورا في اقتحام هذا الموضوع الشائك بالفعل عربيّا، وعالميّا كذلك، إذ إن مشاهد الجنس وتعبيراته كانت أكثر صراحة كما جاءت على سبيل المثال في مجموعته القصصية الأولى “كوميديا الانسجام” الصادرة منذ أكثر من 20 عاما.
والآن، يتعامل بركة مع الجنس مستشهدا بالحكمة القديمة “ما يكفي فيه التلميح، لا داعي فيه للتصريح”. ولا يعرف إن كان هذا جبنا وانسحاقا أمام شروط المجتمع بمعاييره البالية، أم هو نوع من النضج الفني، لكن المؤكد عنده أن المعايير الأخلاقية لا تزال تحكم نظرة المجتمعات العربية للأدب والفن بشكل عام وهذه كارثة بحد ذاتها.
في رواية “مهنة سرية”، لم يتخوف الأديب المصري من ردود الفعل أو يقلق من موقف القارئ، لأن العمل كما يراه يدور حول الظلال والهوامش الملقاة حول الجنس وليس الجنس نفسه، فالبطل علاء يمتهن بيع المتعة الجسدية للسائحات في مدينة شرم الشيخ الساحلية ذات الشهرة العالمية، لكننا لا ندخل معه الفراش، إنما نرصد طوال الوقت انطباعاته على هامش المهنة، ومن هنا فقد أحبطت الرواية كثيرين ممن كانوا يمنُّون النفس بدخول غرفة النوم مع البطل.
ويوضح بركة لـ”العرب” قائلا “الحق أن الجنس من أكثر الموضوعات التي استُخدمت لإفساد الأدب العربي من جانب طرفين في منتهى السوء والأذى؛ الأول يبالغ في تحريمه وتعقبه على طريقة الساحرات في القرون المظلمة، والثاني يبالغ في التركيز عليه في محاولة بائسة للفت الأنظار وادعاء بطولة زائفة.”
ويرى بشكل عام أن الجنس يبقى ظاهرة إنسانية متجذرة في الوعي الجمعي، واللا وعي، منذ فجر التاريخ. ويمكن للأديب أن يجعله قصيدة تخاطب نصفنا المصنوع من الضوء أو يجعله أنشودة للفجاجة والابتذال.
تستعرض الرواية حكاية البطل علاء، المولود لأب كفيف مقرئ للقرآن، “صاحب صوت رخيم بلغ في جمال التلاوة ما لم يوهب لأحد بعد الشيخين مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت”، لكنه يعيش مع زوجته في منطقة احترف أهلها تدوير القمامة في القاهرة، حتى استوطنت الروائح العفنة المنطقة، وصارت مقيما دائما يتسلل بفجاجة وقبح إلى البيوت مع نسمات الصباح كل يوم.
والأب أيضا شخص دائم التقريع لابنه علاء، رجل دكتاتور يدعَّي الفهم في كل شيء، يزعم الرؤية رغم أنه لا يرى في الأساس، وفوق هذا كله هو إنسان بلا طموح، يرى أن التكسب من قراءة القرآن ينزع البركة، حتى إنه رفض تلبية طلب زوجته البيضاء المليحة، التي كان والدها قد أجبرها على الزواج منه، بالسفر للعمل في المركز الإسلامي بولاية ميتشجان الأميركية.
أوحت بعض الإشارات في ختام الرواية بأن الحكاية قد تكون مستمدة من أحداث حقيقية بنى فوقها الكاتب خياله الأدبي بعد ذلك.
ينفي بركة لـ”العرب” صحة ذلك تماما، معتبرا أن ما جاء في هذا السياق يمكن أن يُعد نوعا من “حكاية داخل الحكاية”، بمعنى أننا نجد ضمن أحداث الرواية أن الصحافة حين تناولت الواقعة كشفت عن حكاية أخرى أو تفاصيل جديدة لتلقي الضوء على الحكاية الأساسية.
ويوضح أنه لا يميل بشكل عام إلى استخدام حادثة أو واقعة حقيقية لافتة أثارت اهتمام الرأي العام، أو تصدرت “الترند”، ليغزل على منوالها نصّا أدبيّا أو يستلهم منها بذرة لشجرة إبداعية، إذ يشعر أن المؤلف ينبغي أن يقاوم سحر “الترند” لأنه في النهاية مؤقت وزائل، إنما على الكاتب في المقابل أن يحفر في المياه العميقة للبنية الإنسانية والنفسية والمجتمعية.
تكشف أحداث الرواية عن الحياة السرية لأم البطل في كنف زوجها الذي لم تحبه ولم يحاول انتشال حياتهما من أوحال القمامة التي يعيشان فيها، فتلجأ إلى الخيانة، بل الخيانات المتعددة، ويتواطأ معها ابنها البطل منذ طفولته لإخفاء سرها، ليس لمجرد لأنها تقوم برشوته بالهدايا، إنما لأنه يحبها بالفعل رغم فهمه حقيقة سلوكها، فهي تغدق عليه بشيء آخر، أكبر؛ شيء لم يجده عند أبيه أبدا، إنه الحنان الحقيقي.
اتجه البطل الشاب علاء، الأسمر الفاحم مثل لون بشرة والده، للعمل في مدينة شرم الشيخ، فقادته الأحداث لمهنته السرية التي وجدها تدر دخلا أضعاف دخله من عمله بائعا في أحد المحال التجارية التي تجتذب السائحين، لكن لكل مهنة قواعد ينبغي ألا تُكسر، في نوعية طعامه ومشروباته وصحته.
والقاعدة الأهم، كما تكشف الرواية، هو ألا يقع في حب العميلة وألا يدعها تحبه، لكن من يتحكم في تحركات القلوب؟ إنها ليست كحركات النجوم المنضبطة بمقادير ثابتة، بل هي أقرب إلى شهاب محترق يهوي من علٍ فيسكن القلب، يشعله، ولا يغادره.
الحب يعيد بناء إنسانية البشر.. وقد وقف البطل على أعتابه بالفعل، لكنه عاد ليكتشف أن “البلور لم يكن نقيّا” كما تصور، و”بدلا من سمو البدايات” انحدر مع حبيبته إلى “الطبقات العميقة في وحل الشهوة”.
تسأل “العرب” محمد بركة عما إذا كان يرى أنه لا وجود للحب النقي الصافي، فيجيبنا بأنه لا يوجد حب “غير مشروط” بالمعنى المطلق في هذه الدنيا، فحتى حب الأب والأم لأولادهما يتخلله، في طبقاته العميقة، توقعات بردِّ الجميل حين يصبحا في أرذل العمر، كما يقول.
ويضيف أن هناك مشاعر قوية بالتأكيد في الحب، لكنها سرعان ما تتبخر بعد انطفاء الشهوة أو تفجر التناقضات التي تواطأ الطرفان على إخفائها في البداية. وفي رواية “مهنة سرية”، يندم البطل على المرة الوحيدة التي ترك فيها العنان لمشاعره، فقد كان الطرف الآخر انتهازيّا يريد أن يجمع بين حياة الرفاهية من جانب، والغرام والخيانة الزوجية من جانب آخر.
طابع واقعي
صدرت لمحمد بركة من قبل أعمال أدبية عدة، منها روايات “حانة الست” و”أشباح بروكسل” و”عرش على الماء” و”الموتى يدقون بابي” و”آيس هارت في العالم الآخر”، والمجموعة القصصية “الحزن طفل نائم”، وتمت ترجمة أولى رواياته “الفضيحة الإيطالية” إلى اللغة الإنجليزية.
ويمكن تصنيف أغلب أعماله بأنها تنتمي إلى المدرسة الواقعية في الأدب، بعيدا عن الكتابة وفق مدارس “ما بعد الحداثة” كتيار الوعي والواقعية السحرية وغيرهما، حيث تسود الغرائبيات والرموز، برغم أن هذه الكتابات صارت الأكثر انتشارا وتنال الحظوة في الجوائز الأدبية.
يقول الأديب المصري لـ”العرب” إنه لا يركض وراء أحدث صيحات الكتابة الأدبية أو يلهث وراء ادعاءات كاذبة تسخدم مقولات “ما بعد الحداثة” كمساحيق لإخفاء قبح النص والتغطية على ضعف الموهبة.
ويوضح أن كتابات “الواقعية السحرية” مثلها مثل “الرواية التاريخية” أو “رواية السيرة الذاتية” أو “نصوص المدينة الفاسدة/ الديستوبيا” أو “الأدب الرمزي”، كلها باتت لافتات يختبئ وراءها أنصاف الموهوبين بكتاباتهم الركيكة، تبريرا لفشلهم في التعبير عن الاشتباك الحار والحر مع اللحظة الراهنة التي تتميز بالقسوة والارتباك ويعيشها إنسان العصر.
ويتفق بركة مع النظرة إلى رواياته بأنها تتسم بالطابع الواقعي، إلا أنه يستدرك بأن هذا مجرد إطار خارجي خادع، فالخيال يحضر بقوة، والفانتازيا تطل، كما أن اللغة والبناء والتصوير النفسي للشخصيات الرئيسية تنتمي إلى “الحداثة والتجديد” بالمعنى الحقيقي، قائلا “هذا من وجهة نظري على الأقل، وبحسب شهادات النقاد.”
تنطوي الرواية على إشارات قد يعتبرها البعض مسيئة لثورة 25 يناير 2011 بالنسبة إلى من يقدسونها، ويرفعون شعار “لا مساس” بشأنها، وقد عبّر الكاتب صراحة عن قناعته بأنه لا شيء يتغير في حياتنا إلا للأسوأ.
الكاتب يسعى إلى ثورة تتجاوز الميدان وتخلخل بنية العقل الشرقي لتحرضه على الاستنارة والعدالة ومقاومة تجار الدين
يعتبر بركة أن هذه التفاتة ذكية تتطرق إلى قضية مهمة طُرحت بشكل عابر على هامش القصة الأساسية في الرواية، موضحا “لا تنسَ أن البطل ترس صغير في ماكينة عملاقة تسمى الصناعات السياحية التي لا تنتعش إلا في حضرة الاستقرار الأمني.” ولم يتخوف الكاتب من رد الفعل حول تلك الآراء التي يطلقها البطل، فهو متسق مع نفسه ومع طبيعة مهنته.
وبحسم يقول “لا أنافق القارئ، فأنا لا أقدم ما يطلبه القراء أو ما يطلبه الناشرون. وبالتالي، لن ألوي عنق الشخصية حتى أبدو مؤلفا تقدميا ينحاز إلى الثورة بالمعني المبتذل المستهلك، وقد شاركتُ شخصيّا في أحداث ثورة يناير بميدان التحرير (وسط القاهرة)، لكنني أسعى إلى ثورة تتجاوز الميدان إلى خلخلة بنية العقل الشرقي لتحرضه على الاستنارة والعدالة ومقاومة تجار الدين من المتأسلمين الذين حولوا الإسلام إلى فوهة بندقية ووجوه عابسة واغتيال للآخر.”
ويرى أن دوره ككاتب ليس التقاط الصور في وقفة احتجاجية بمنطقة وسط البلد وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية بجوار “رفيقة مناضلة”، إنما دوره أن يجعل من نصه الأدبي حالة ثورية تضيء ظلمة الواقع.
وما يبقى أخيرا هو أن أي نص أدبي يكون ملكا لقارئه بعد أن يخرج إلى النور من بين يدي الكاتب، فلنا أن نفسر ونحلل ونتذوق. ومن هذا المنطلق، فإن رواية “مهنة سرية” لا ينبغي التوقف في قراءتها عند حدود الحكاية، باعتبارها مجرد قصة شخص يمتهن مهنة لا أخلاقية، إنما يمكننا أن نبصر في أعماق النص ملامح لوحة أخرى.
اللوحة لوطن حنون على أبنائه بصدق، كأم البطل، لكنه بحكم كونه كثيرا ما يحيا في كنف حكام بلا طموح، بلا حلول، يدَّعون الرؤية رغم أنهم لا يبصرون، مثل الأب، فإن هذه الأم قد تلجأ إلى خيانة الكل بالارتماء في أحضان غرباء على أمل إدراك السعادة، لكنها لا تجد عندئذ إلا أبناء، ليس بينهم من يتسم بـ”العلاء” كاسم البطل، إنما قد ينزلقون إلى أعمال ساقطة، تمثل امتدادا لحياتهم الطويلة بين أوحال القمامة.