محمد الكرد

روى لي شيخ صديق، ذو صوت عذب في التلاوة، ويميل إلى الدعابة، مستظرفاً منها تلك المتصلة بالجنس؛ أن امرأة غِرّة وتعيسة سألت أخرى مُجربّة عن أنواع الرجال حسب أعمارهم، وتدرّجت في الأسئلة عن الذكور، حسب توالي العَشريات، بدءاً من السؤال: ما قولِك في ابن العشرين؟ ثم ابن الثلاثين، فالأربعين، وصولاً إلى السبعين، أي إلى مرحلة التوخي لحُسن الخاتمة عجزاً وتحسباً للموت. وبالطبع، لن يكون للطُرفة وقعها، على لسان فقيه، دونما بديعية لفظية، اختار شيخي من بين مُحسّناتها، السَجَعْ، وهو أحد صيغ الإجادة في فن القول والبلاغة فيه.
عن السؤال الأول: ما قولك في ابن العشرين، أجابت المجرِّبة: رَيحانةٌ تشمين. وعن ابن الثلاثين، تأخذين وتغرقين، وابن الأربعين، قوة ظَهرٍ مكين، ثم تتداعى الأجوبة حسب الأعمار، مروراً بـ: تأخذين ولا تأخذين وصولاً إلى الجواب عن السؤال الأخير: إحسبيه مع المُفلسين!
محمد الكرد، ابن العشرين، كان فتىً فلسطينياً، طُردت أسرته من بيتها في حي الشيخ جراح في القدس في العام 2009. ارتحل إلى الولايات المتحدة متأبطاً غُصّته، ولمّا وصل إلى سن الدراسة الجامعية، التحق بكلية سافانا للفنون والتصميم، قاصداً شرح قضيته العامة والخاصة، بشفاعة الصورة والرسم والجمل الشعرية. لم يكن آنذك على يقين بأنه سوف يبرع أيضاً، في فن القول بصوت وطريقة إلقاء جذابة، عندما يَشبُّ عن الطوق. ولأن الغُصّة، هي سكرة الموت، فقد كان الكُرد راغباً بقوة، في دفع الموت الآجل، قبل أن يُفضي بما في جعبته. التحق بعدها، لنيل شهادة الماجستير في الكتابة، وفاجأته موهبته، بمنحه ناصية الكلام، بإنجليزية بليغة، كبلاغة الشيخ في اللغة العربية. التقطته وسائل الإعلام الأميركية، وفي طليعتها “سي إن إن” واستحضرته المرة تلو الأخرى، لكي يطرح روايته الأخرى نقيضة الرواية السائدة الملفقة.
كان لازماً، لنجاح سعيه، أن يتكئ إلى شيء تأسيسي، فأصدر مجلة مصوّرة، تزدحم بالصور والتصاميم، مع نصوصٍ جدُّ مقتضبة، مدركاً أن رواج الصورة على وسائل التواصل، يأخذ الناس بعيداً عن القراءة المُطوَّلة أو حتى القصيرة عند الكثيرين. وسرعان ما أصبحت شقيقته منى، شغوفة بدربه الجريح، وتقتفي أثره. ولعل الكرد، أدرك بذكائه الوقّاد، أن سياقاته التعبيرية، في حاجة إلى رمز يجسد الحكاية كلها، في وقائعها وتفصيلاتها، لذا اتخذ من جدته “رفقة” رمزاً ومصدر إلهام. فهي في نظره إحدى الفلسطينيات اللائي عايشن تعقيدات وصدامات في حياتهن، وأراد أن ينهل من ذاكرة الطفل الذي كانه، لكي يعزز روايته بالشهادات الحيّة. يقول لموقع “فلسطين ألترا”، “أعتقد أنني محظوظ، كوني قادراً على الحصول على التعليم في الخارج، والاستفادة من صوتي في الإلقاء والحديث، لذا فإنني أستغل كل مناسبة لسرد واقعنا الفلسطيني!”.
في عرض جامعي لطلبة الكلية، صنع صندوقًا على شكل هديةٍ كبيرة، ووضع بداخله قميصاً شبه محروق، يمثل ما فعله المستوطنون بالطفل أبوخضير، وآخر عليه آثار إطارات سيارة للشهيدة الطفلة إيناس دار خليل، التي دهسها مستوطن. كتب تحت صورة ملابس الطفل المحروق “صباح آخر من الحداد.. صباح آخر من الإرهاب”. وجاءت العبارتان، مثل سجعة باللغة الإنجليزية، فيها توظيف لقُرب التطابق في النطق، بين كلمتي الصباح والحداد.
مثلما قيل للتعيسة التي سألت المرأة المجربة عن ابن العشرين، فإن الكُرد هو الريحانة، أما العفونة والعجز البليغ فإنهما من نصيب ذاك الذي لم يكن من ضمن الأسئلة، إذ يزحف إلى سن التسعين، وأغلب الظن أنه كان عفناً منذ سن العشرين.
