محمد الجزائري الذي احترف الكتابة على أديم الفرات

الكتابةُ عن راحلٍ قريبٍ كالنبشِ في أكوامِ المواجع لتستنهِضَ منها ما يُمكِنُ قولُهُ بعد أن نعاهُ كثيرٌ من الأصدقاء، كلَّهُم أضافوا كلمةَ وداعاً إلى جوارِ اسمِهِ، فهل تكفي كلمةٌ واحدةٌ لتُقنِعَنا أنَّهُ لن يعود ثانيةً إلى ما كان، بهيبةِ حضورِهِ الدائمِ وأناقَتِهِ وصوت ضحكاتِهِ ذهَبَ إلى الحياةِ الثانية، تاركاً لمن عرفوه استجرار مواقفه السابقة و تخيُّل ما كانَ منهُ في لحظات اللقاء، فكَم فاتَنا منه قبل رحيلِه وكم بقيَ لنا في مخيِّلَتنا؟
اللقاء الأخير
قبل نحو شهر من اليوم، التقينا بترتيب من المسرحي والروائي العراقي الدكتور حازم كمال الدين في بيتِهِ بأنتويرب البلجيكية، كانَ اللقاء حقيقياً بعيداً عن كلِّ ما يُمكِنُ للرجلِ أن يضعَ نفسَهُ فيه، هو الذي يكبرني بأربعةِ عقودٍ ونصف، لاحظَ عدمَ قبولي خلال قِصَصه تسميةَ العاصمةِ السورية بدمشق- اسمها الرسمي- فقال لي: أنتم السوريون تحبُّون اسم الشام، ومن لحظَتِها توقَّفَ عن ذكرِ الأولى واستبدَلَها بالثانية، إلى هذا الحدِّ وأكثر كان محمد الجزائري قادراً على كسبِ القلوبِ من حولِه، استمرَّ اللقاء حتى ساعةٍ متأخِّرَةٍ قبلَ أن أمضي معهُ عبر طريقٍ طويل وصولاً إلى محطة القطار حيثُ اتَّجَهَ إلى خينت مكان إقامتِه منذ أن وصَلَ إلى بلجيكا لاجئاً بعدَ أن ضاقَ بهِ الشرق.
محمَّد عبدالرضا أحمد الجزائري كاتبٌ وناقدٌ وفنَّانٌ عراقي وُلدَ في الثلاثين من يونيو من عام 1939 في منطقة الخندق بالبصرة جنوبي العراق، تلك المنطقةُ التي كانت وعاءً لحضارات العراق وسلَّةً لغذائها، عند التقاء دجلة والفرات في نقطةٍ جغرافية تمنحُ لأبنائها كثيراً مما قد تُقدِّمهُ جغرافية للفكر البشري، تلك الجغرافية بامتدادها وانعكاساتِها كان لها في نفس وشخصيَّةِ الجزائري حضورٌ كبير فظلَّ عصيَّاً على اختزال المكان بذاكرةٍ تفرَّدَت بقدرةٍ تسجيليَّةٍ عاليَة، وثَّقَ من خلالِها كلَّ مراحلِ حياته فكان قادراً على استرجاع أيِّ مرحلةٍ منها بمجرَّد البدء بالحديث، كان مميَّزاً بالاستطراد تلك التقنيةُ التي لا يُتقِنُها إلا قليلٌ ممَّن استطاعوا بناءَ معرفةٍ تراكميَّةٍ تقومُ على القدرة على قولِ ما يُمكِنُ قولُهُ ضمنَ منطِق الأمانةِ التاريخية للحيِّ والميِّت معاً، لقبُهُ الجزائري جاءَ من منطقةِ الجزائر في “الجبابيش” بالبصرة حيثُ سكن جدُّهُ الأوَّل محمَّد بن الحسين بن محمود بن غياث الذي حمَلَ لقَبَ “شيبان”.
أعادنا إلى جلساتِ اتحاد الكتَّابِ في العاصمة السورية، تحدَّث باستفاضةٍ عن تفاصيلَ لا يعرفُها إلا من حضَرَ تلكِ الفترة، هوَ الذي عاصَرَ حُكمَ ما قبل البعث، حاولَ مع آخرين أن يحفرَ الصخرَ كي لا تضربَ الديكتاتوريَّةُ سيفها في الأرض، ولكنَّ أحلامَ المُناضِلين لا تستطيع إيقافَ مشاريع العسكر، وهكذا كان عليهِ أن يعيشَ المنفى في وطنِهِ والغربةَ بين ربوع البصرة وبغداد بعد أن تمَّ تجميدُه من عملِهِ بدعوى معارَضَةِ القائد الهمام زعيم الحزب والشعب معاً.
محمَّد الجزائري لم يكن متفاجئاً من وقوفِ الكثيرين من المثقَّفين الذين تركوا إبداعاً كبيراً إلى جانب الطغاة في معركتِهِم مع الشعوب مُتنَكِّرين لتلك الشعارات البرَّاقة التي أطلقوها ذات يوم، إنَّها القدرةُ على الولوج إلى أكثر الأماكن في النفس البشرية ليسوق من الماضي أمثلةً في انتخابات المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب أو من الفعاليات الثقافية ليدين من نتفاجأ اليوم بموقِفهم.
آخر أيامه في العراق يختمها الجزائري بالحصول على جائزة الدولة للإبداع كأحسن سيناريو وثائقي عن فيلم "صورة زمن" الذي أخرجته عاتكة الخطيب
بعيدا عن البصرة
حياتَهُ الأولى في العراق تبدأ بعيداً من الجنوب الذي شهد حضور الجزائري كشاعرٍ أتقنَ الأبجديَّة وامتلكَ بوابةَ الكلمات، قبلَ أن يسلُكَ طريق النقد الفني حيثُ أرسى قواعدَ مدرسةٍ نقديةٍ منذ انتقالِه إلى بغداد العاصمة مع مطلع ستينات القرن الماضي ليغادِرها مرغماً في أوائل التسعينات إلى الأردن، حيث استقرَّ بضع سنوات ولكنَّهُ استقرار العراقيين المشوب بالحذَر في المُدُن العربية قبل أن يرتحِلَ إلى الإمارات العربية المتَّحدة مؤسِّساً فيها العديد من المجلَّات والمطبوعات، لتكون آخرَ محطَّاتِهِ بلجيكا منذ خمس سنوات تقريباً حيثُ وصلَها لاجئاً حازماً حقائبَهُ إلى مدينةِ خنت لتكون ملاذاً لهُ بعد طولِ عناء.
خطواتٌ تركَ فيها محمد الجزائري أثراً في كلِّ مكانٍ حلَّ به، فإن كانت المدرسة الإعدادية هي البداية في البصرة فإنَّ دبلوم الصحافة في بغداد لم يكن آخر محطاته الأكاديمية.
بدأ صحفياً متدرباً في المؤسسات العراقية مطلع الخمسينات الماضية حيثُ كانت مجلة الرواق المتخصِّصة بالفن التشكيلي هي محطَّته الأولى لينتقلَ بعدها إلى الملحق الأسبوعي في جريدة الجمهورية قبلَ أن يكونَ رئيس تحرير مجلة “الأدب المُعاصِر” الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق، ولتكون مجلة فنون هي آخرُ محطَّاتِه الصحفية حيثُ استلمَ رئاسة تحريرها لبضع سنوات لغاية إغلاقها من السلطات العراقية في الأول من يونيو عام 1987.
الصحفي المغامر
محمَّد الجزائري التوَّاق للحرية خضع للعزلة الإجبارية في وطنِهِ طيلةَ ستةَ عشرَ عاماً عانى فيها ما لا يُمكِن احتمالُهُ تحت وطأةِ النظام الأمني الذي حكَم البلاد، يروي عن تلك الفترة بكثيرٍ من الحسرة على الدائرة المثقفة التي وقفت تتفرجُ على ركونِهِ بعيداً خارجَ عجلةِ الحركةِ الثقافية وهو الذي لعبَ دوراً بارزاً في اتحاد الأدباء، وساهمَ بتطوير مفهوم النقد الفني والأدبي في العراق، أمام هذه الحالة نستذكر آخرين مرُّوا بظروفٍ مُشابهة فلم يجدوا لهم مكاناً يحتويهم على امتداد الوطن الذي فتَحَ لهم ثغرةً في الحدود المنصوبةِ على جبهاتِهِ الأربع ليكونوا خارِجَهُ يواجهونَ في المنفى مُعضِلَةَ إثباتِ الوجود.
تلك الأنظمةُ التي عمِلَت بكثيرٍ من التخطيط على قمعِ الضفَّةِ المقابلةِ لهم وإلغاءَ الطرف الثالث الذي وقفَ مُتفرِّجاً على انهيار المعارضين وفرارهم خارج البلاد التي تحكُمُها دائرة حدودها، إن لم تكن معنا فأنت ضدُّنا.
الحدود طريق المستقبل
الجزائري الناضج حينها، قرَّرَ مغادرةَ العراق مع مطلع التسعينات لتكون المملكة الأردنية مقراً لهُ في بادئ الأمر، قبل أن ينتقلَ للإمارات العربية المتحدة حيث استطاع الانخراط في الحركة الثقافية في إمارة الشارقة، ليكون مِفصلاً هاماً ومرجعاً أساسياً في التقييم الفنِّي التشكيلي والضوئي ومؤسِّساً للعديد من الإصدارات الإعلامية الدورية بخبرتِهِ الصحفيَّة الممتدة لأكثر من خمسين عاماً.
صحفيا متدربا في المؤسسات العراقية مطلع الخمسينات الماضية يشق الجزائري طريقه نحو مجلة الرواق المتخصصة بالفن التشكيلي والتي أصبحت محطته الأولى، لينتقل بعدها إلى الملحق الأسبوعي في جريدة الجمهورية قبلَ أن يكون رئيس تحرير مجلة "الأدب المعاصر" الصادرة عن اتحاد الأدباء
خمسون عاماً عاصَرَ فيها كمَّاً كبيراً من الأحداث والأجيال التي قادَت أو أُقصِيَت عن المشهد الثقافي العراقي والعربي عموماً، تلك المراحل التي يتذكَّرُها بحذافيرِها محمد الجزائري حيثُ فاجأ الجميع خلال الذكرى السنوية لرحيل الفنَّان العراقي حمَّادي الهاشم في خينت البلجيكية حينَ راحَ يسرُدُ تفاصيلَ المعارِكِ الخفيَّة التي كانت تدور في أروقةِ المؤسَّسات الثقافية العراقية ما دفعَ بالشاعر ماجد المطرود أن يطلُب من الجزائري تدوين مذكِّراته التي ستكون شاهداً على كلِّ التحوُّلات في العراق وأكَّد الأخير أنَّهُ سيفعل ولكنَّ الموت لم يُعطِهِ الفرصةَ كي يكمِلَ ما وَعدَ به.
حياةُ الجزائري في البصرة وما بعدها، استمرت حتى العام 1987 حيثُ أصدَر خلال تلك الفترة، العديد من الإصدارات الأدبية من أبرزها “حين تقاوم الكلمة” عام 1971، “ويكون التجاوز” الدراسة النقدية المتميِّزة في الشعر العراقي المُعاصِر، “الكتابة على أديم الفرات”، “الفن والقضية”، “في التكوين” والذي تناول فيه تجربة النقاد العرب من خلال دراسة شاملة لطه حسين ومحمد مندور وعبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم وغالي شكري وغسان كنفاني ونبيل سليمان عام 1984 حيثُ صدَر هذا الكتاب باللغة الروسية ويُعتَبَرُ أساساً لمن أرادَ مراجعةَ الاتجاهات النقدية الأدبية العربية.
المرحلة الثانية في حياتِهِ بدأت مع تشديد القبضة الأمنية في العراق حيث خضَع كغيرِهِ من المثقفين إلى التضييق فاتَّجَهَ إلى تعميق الناقد الفنَّان بداخِلِه، وهنا كانت إصداراتُهُ التي بدأت بكتابهِ “أسئلة الرواية”، ليُتبعهُ بسلسلةٍ تأريخية نقدية عن الفنانين العراقيين، “مقامات الحريري”، “خطاب الإبداع: الجوهر، المتحرِّك الجمالي”، وفي الكتاب الأخير برزَ محمد الجزائري كخبيرٍ متمرِّس في الأدب والصحافة والفن على حدٍّ سواء ليختِم هذه المرحلة بجائزةِ الدولةِ للإبداع كأحسنِ سيناريو وثائقي عن فيلم “صورة زمن” الذي أخرجتهُ عاتكة الخطيب.
في المنافي المتعدِّدة يبدأ الجزائري بالتخلُّص من الخضوع للتوصيف النقدي التخصُّصي من خلال بناء منظومتِهِ الفكرية والفلسفية، على أعمِدَة المعرفة التراكمية المتَّصِلة بالتاريخ والجغرافية والزمان و المكان والميثولوجيا.
هذه التركيبة الفريدةُ لم تكُن لتُختَصَر إلَّا عند الجزائري بصورتِها التي انعكَسَت إبداعاً و إصراراً على استكمال المعارف ومتابعةِ كل ما هو جديد رغمَ البعد، حيثُ بدأت هذه المرحلةُ بأبواب المنفى بعد أن خرجَ من أرض العراق حازماً عازماً على عدم العودة باحثاً عن موطئ قدمٍ في الخارج بعيداً عن فضاءات السلطةِ الأمنية.
حياته الأولى في العراق تبدأ من الجنوب الذي شهد حضور الجزائري كشاعر أتقن الأبجدية وامتلك بوابة الكلمات، قبل أن يسلك طريق النقد الفني حيث أرسى قواعد مدرسة نقدية منذ انتقاله إلى بغداد العاصمة مع مطلع ستينات القرن الماضي ليغادرها مرغما في أوائل التسعينات إلى الأردن
في تلك السنوات الأخيرة التي شابَها كثيرٌ من الانتقال وعدم الاستقرار استمرَّ الجزائري بإصداراتِه الأدبية والنقدية ومن أبرزها، “خطاب العاشق”، “من الواقعية إلى الفانتازيا”، “القاتل والضحية” وهي تُعتَبَر أبرز الدراسات النقدية التي تناولت الميثولوجيا والشعر، “النحت العربي المعاصر”، “آلةُ الكلامِ النقدية” حيثُ تضمَّنت هذه الدراسة المستفيضة أبحاثا نقدية في بنائية النص السردي، ليتبعها بخاتمة إصداراتِهِ في مجال البناء الشعري والتي تناولَ فيها “تخصيب النص”.
طائر من الشرق
منذ سنوات قليلة وصَلَ الجزائري مُحمَّلاً بكثيرٍ من ألم الشرق إلى بلجيكا، حيثُ اختارَ مدينةَ خينت الضاربة في جذور التاريخ التي يخترقُها نهرٌ كبير تنتشرُ على جانبيه مقاه عديدة وكأنَّهُ أرادَها النسخةَ الأوروبية لبغداد، فيها استطاع أن يُكمِل دراسةَ الدكتوراه في الإعلام والصورة ولينتسبِ ببرنامجٍ مسائي للرسم في أكاديميَّة سانت لوكاس الشهيرة، حيثُ رسَمَ العديد من اللوحات لكنَّهُ كان يعدُّ نفسهُ هاوياً للألوان مُكتَفياً بقراءةِ أبعادِها التي تتسرَّبُ إلى النفس البشرية كما رأيتُهُ مرَّةً في معرضٍ فنِّي في العاصمة البلجيكية يتفحَّصُ اللوحات وكأنَّهُ طبيبٌ يُشخِّصُ آلامَها وأماكنَ الفرحِ فيها.
يوم الجمعة في الثالث والعشرين من الشهر السابع لهذا العام وفي تمام العاشرة مساءً تفجَّرَت شرايين قلبِهِ وأُدخِلَ على إثر ذلكَ إلى مشفى الجامعة في خينت ليخضَعَ لعمليَّةٍ استمرَّت حتى صباح السبت دون جدوى، ولِتُعلَنَ وفاتُهُ في صباح السبت ليعود إلى العراق كما أرادَ في تابوتٍ خشبي حيثُ سيحصل هناك على مترٍ وسبعين سنتيمتراً من التراب لن ينافِسهُ فيه أحد ولن يطرُدهُ منه أحد، هكذا خيارُ الأوفياء بصمتِ الرحيل ليتركوا لنا إحساس الفقدِ الذي منعني أن أقفَ أمامَهُ مسجَّى بالأبيض مُنتَظراً الرحلةَ الأخيرة، ابتعَد الجزائري إلى مثواهُ الأخير بعد المنافي المتعدِّدة وخذلانِ الأوطان له حيثُ لم يُعطِهِ القدَرُ أيضاً مُتعةَ الفرَحِ ببيتٍ جديد استلمَهُ مطلع الشهر الماضي حيثُ كان يُفكِّر بحديقةٍ صغيرةٍ وأحلامٍ مؤجَّلة وأسرارٍ كثيرة حمَلَها معه ومضى وحيداً.