محمد الأصفر يؤرخ بالكتابة ويدين الحرب ويستعيض عنها بالموسيقى

علاقة الرواية بالتاريخ واحدة من الإشكالية النقدية، التي ما زال الكلام عنها مفتوحا على مصراعيه، وقابلا لكافة الأطروحات والرؤى السجالية، وهو ما دفع الناقد عبدالله إبراهيم إلى القول بالتخييل التاريخي، كنوع من تجاوز السردية التاريخية ليشكل الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، في مسعى لتفكيك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية.
رواية الكاتب الليبي محمد الأصفر “علبة السعادة” ليست رواية تاريخية بالمعنى الكلاسيكي، ولكن التاريخ حاضر فيها بطرائق شتى، فالواقع الذي تنقله ما هو إلا صدى لأفعال الدكتاتورية.
وترصد الرواية لفترة مهمة من تاريخ ليبيا وصراعها مع جارتيها خلال حقبة الثمانينات والتسعينات، وهيمنة فكر وسياسة الكتاب الأخضر في مناحي الحياة. فتتوقف الرواية عند الحكم الشمولي في ليبيا، الذي كان في ذروة عنفوانه، حيث الدولة بمثابة الأخ الكبير تقوم بكل شيء نيابة عن الشعب فـ”الاستيراد يتم عن طريق الدولة فقط، ولا توجد متاجر قطاع خاص”.
لحن الرماد
تبدأ الرواية، الصادرة مؤخرا عن منشورات إبييدي، بمشهد ترويه ريتا، الفتاة الإيطالية للمبروك الشاب الليبي الذي جاء ليلتقط رزقه ببضاعة يبيعها في السوق الليبية، التي تيبست بفعل منتجات تفرضها الدولة/ الأب (السلطوية)، قبل عودته إلى وطنه، عن محرقة الألحان التي نقلها التلفزيون؛ امتثالا للقرارات الثورية، وتنتهي الرواية بمشهد الهجوم على الحفل الغنائي في ألمانيا، من شباب “خليط هائج من حليقي الرؤوس”، فمنهم “ملتحون على رؤوسهم عمامات وفي وسطهم أحزمة بها خناجر ملتوية، ومعهم آخرون يرتدون أقنعة بها قرون كقرون الشيطان…” وغيرهم من مختلفي الهويات والأيديولوجات.
في مشهد كاشف لحالة العنف والكراهية التي يكنها أعداء الجمال، وكأنهم اتحدوا ليستبدلوا نداء لهم “يا أعداء الجمال اتحدوا” بشعار “يا عمال العالم اتحدوا”، وهو ما يشير إلى معنى مهم يفيد بأن أعداء الجمال والحب والسلام، ليسوا حكرا على أيديولوجيا معينة كما سعى الغرب إلى الترويج لها؛ بل القبح الداخلي والكراهية التي تصل إلى حد العنف، هي نزعة أهل الشر في كل الطوائف.
تسرد الرواية وقائع القهر والمعاناة التي عانى منها بطلا الرواية الإشكاليان، المبروك وعبدالوهاب؛ الأول درس الموسيقي وعمل مدرسا، وكان بين الحين والآخر يتاجر في البضائع المهربة، وتزوج من غزالة، لا أحلام له إلا العزف وأن يعيش هادئا، لكن “يقحم في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل ولا نعامة”.
تقدم الرواية واقعا كابوسيا، لكن فيه بصيص أمل يمرره الراوي ويدعو إليه، يتمثل في المقاومة والنضال
أما عبدالوهاب فهو إنسان بسيط ثقافته محدودة، لم يكمل تعليمه. ظروفه العائلية السيئة أجبرته على الانخراط في سوق العمل اليدوي، فقد عمل طباخا ثم سائقا، يعتقل لمدة عامين لأنه أخفى قيثارة.
وبينما الرواية تسرد مأساة الشخصيتين، تجتر واقعا مزريا عاشه الليبيون تحت مظلة حكم أيديولوجيا الكتاب الأخضر؛ (اقتصاديا: الفقر، وركود الأسواق. سياسيا: غياب الحرية، وهيمنة الفكر الواحد، وجعل الجميع يتجسس لـ“خدمة الوطن والقائد من خلال العمل الأمني”، وثقافيا: هيمنة الموسيقى الرجعية، ومعاداة الغربية). وإن كانت تتقاطع مع حكاية الشخصيتيْن الرئيستيْن حكايات من أماكن مختلفة (تشاد، ألمانيا) على نحو حكاية زمزم وابنتها قمر اللتين التقاهما المبروك وهو أسير في تشاد.
وعبر حكاية هذه الأسرة التشادية التي ألفها المبروك، وعاملته كأخ وليس كأسير، يقدم صورة للوجه الحقيقي للإنسانية، الرافضة لسياسات العنف والقهر التي تنتهجها السلطات الدكتاتورية، دون فرق بين دكتاتور شرقي وآخر غربي، فالجميع أوقعوا شعوبهم في أتون الحروب، التي دمرت وشتتت الجميع كما حدث لأسرة الضابط إبراهيم “وجعلتهم قوما رحلا”.
في الحقيقة تتسرب داخل الرواية، بخفة ورشاقة دون تبني حمولات أيديولوجية أو شعارات زاعقة، الكثير من أفكار الماركسية، خاصة آراء كارل ماركس الذي تعشقه كرستينا، ويلبي لها عبدالوهاب طلبا بزيارة مدينته “كمينتس” وقام بعزفه لحن أزهار الكرز محبة لها، فهي تؤمن بمبادئ الشيوعية إيمانا كاملا، وتطبقها في حياتها وفي خطابها.
سردية العنف
تبدو الرواية في أحد أوجهها سردية مضادة لسردية العنف الذي يحمل ويلاتها الجميع بلا استنثاء سواء بالإيذاء البدني أو القمع، كما صورها عبدالوهاب وهو يحكي عما تجرعه المساجين اليساريون داخل أقبية السجون، إلى أن لاح “الصبح، فلا السجن والسجان باق” كما غنى محمد وردي. أو تلك التي تعرضت لها أسرة كرستينا فشعرت؛ وكأنها لاجئة في ألمانيا الشرقية.
ومع كل هذا الدمار والخراب الذي حاق بالجميع، بسبب السياسة التي هي رديف للعنف عند ميلز، وفايبر وماركس، ومع هذا فالرواية لا تتبنى رأي ماركس في أن السياسة هي الحكم بالعنف، بعد أن كانت عند أفلاطون هي بمثابة حل للعنف. فالكاتب يتماهى مع آراء نيتشه وحنة أرندت في عدم تفعيل العنف، ودعوتهما إلى الرجل الجديد أو القوي، فكل أبطال الرواية بعد أن خرجوا مجروحين، التمسوا طريقا آخر بعيدا عن العنف، سعوا إلى التغيير والسلام بالورود، وفقا لدعوة روت وهي تستقبل السياح من كل بلدان العالم بالزهور فكما تقول “الزهور جمعتنا، والزهور وحدها ستحقق السلام في العالم”.
الرواية قائمة على المراوحة على مستوى أماكن الداخل والخارج، أو الرغبة في السلام في مقابل العنف وإكراهات الدكتاتوريين، أو على مستوى اللغة التي تراوح بين اللغة الفصيحة واللغة المحلية بكل جمالياتها وحمولاتها، وكأن محمد الأصفر يسعى للتوثيق حيث حملها أمثله وأغاني شعبية وكلمات محلية وغيرها. أو تلك التي يتبادلها الراوي/ الأنا مع الراوي/ الغائب ومرة الأنا مع أناته بتحويلها إلى أنا مبعدة منفصلة وكأنها غير “أنت”.
أيضا ثمة مراوحة بين أماكن رحبة كالميادين والغابات التي مارس فيها المبروك نزقه مع ريتا الإيطالية، وعبدالوهاب مع كرستينا، وأماكن ضيقة منقبضة كالسجن في حالة عبدالوهاب، الذي ألقي عليه القبض بسبب القيثارة، والأسر كما عاشه المبروك في تشاد؛ في الأماكن المفتوحة تسود أجواء الموسيقى والغناء والحب، وفي الأماكن المقبضة تكبس ريح الحرب والموت والقيود والتعذيب واللاآدمية.
ثمة مراوحة أخرى بين المتخيل والواقعي أو المرجعي، ليس فقط على مستوى شخصية المؤلف الحقيقية والمبروك إحدى الشخصيات الرئيسية، وإنما في استحضار الشخصيات الحقيقية مثل: كارل ماركس ومشهد تدشين تمثاله في مدينة كمينتس، وبيتهوفن وبيته وغرفة الموسيقى، وأحمد فكرون وأغانيه، والصادق النيهوم. وأحمد إبراهيم وزير التعليم في عهد القذافي، ومواقفه ضد الطلاب. وتوظيف هذه الشخصيات الحقيقية في الحكاية وكأنها جزء من حكاية متخيلة.
تؤكد الرواية على معنى مهم، بأن المعارضة ليست خائنة، بل هي وطنية، فعندما حدثت الغارة الأميركية على الأراضي الليبية بسبب تفجير أحد الملاهي في برلين، لم يظهر المعارضون (وهم في المعتقلات) شماتة في الدولة، بل هاج المساجين وتمنوا أن يكونوا في طليعة الصفوف ليحاربوا.
ويستمر هذا الواقع الكابوسي، لكن ثمة بصيص أمل يمرره الراوي ويدعو إليه يتمثل في المقاومة والنضال، حيث راح الشعب يناضل للتحايل على عفن الدكتاتورية “بالكرة والبحر والغناء”، مثلما يدعو إلى أن تعم ثقافة السلام.