محسن الرملي لـ"العرب": الأدب شاهد على العصر لا مجرد خيال للتسلية

ليس الأدب مجرد ترفيه أو اشتغالات جمالية بعيدة عن الواقع يقوم بها كتّاب منعزلون في ذواتهم، الأدب في جوهره اشتباك مع الواقع الإنساني، لا بمعنى أنه واقعي بالضرورة ولكن بمعنى أن رهانه في النهاية هو الإنسان والحياة. كما يمكن للأدب أن يكون أداة توثيق وتأريخ، وهذا ما يؤمن به الكاتب العراقي محسن الرملي، الذي كان لـ“العرب” معه هذا الحوار.
عبر الروائي العراقي محسن الرملي عن غبطته باختيار روايته “حدائق الرئيس” من بين خمسة كتب اختارتها مجلة “إيكونوميست” البريطانية لتقترحها على القراء لفهم تاريخ العراق الحديث ومهد الحضارة الإنسانية.
ويقول الرملي، الذي يعد من جيل روائيين عراقيين صنعوا ذائقة مختلفة في كتابة النص الروائي، “لقد سرني كثيرا هذا التقييم المهم من مجلة عريقة كهذه، وخاصة أنه يتعلق برواية ‘حدائق الرئيس’، التي أعتبرها صوتا للضحايا في بلدي، أكثر مما فيها من صوتي الخاص، كما في بقية أعمالي، وصورة لما حدث على مدى أكثر من نصف قرن”.
احتفاء بالرواية
يعتبر الروائي العراقي في حوار خاص مع “العرب”، هذا التقييم منسجما تماما مع ما يعتقده من أن “الأدب أصدق من كتب التاريخ الرسمية في التعريف بالتاريخ الإنساني الخاص بالناس، بتفاصيل ظروفهم وعلاقاتهم وهمومهم وحياتهم”.
ويضيف “سبق للعديد من الكتاب والمثقفين والدارسين والقراء العراقيين، أن دعوا إلى اعتماد هذه الرواية ضمن سياقات التعليم ومراجعه في المدارس والجامعات، وبالطبع، لم تلتفت الحكومات العراقية المتعاقبة، إلى أمور كهذه، فهي منشغلة بالمحاصصة والفساد والنهب، أكثر من انشغالها بالتأسيس والبناء والتعليم وترميم الذاكرة، لتجنيب الأجيال القادمة تكرار معاناة ومأساة الأجيال السابقة”.
ويقول الرملي، المتخصص بالأدب الإسباني ويقيم في مدريد منذ سنوات عديدة ويمارس التدريس في جامعاتها، “انطلقت في كتابة هذا العمل من حدث واقعي، هز كياني بعمق وعصف بي حزنا، وهو مقتل تسعة من أقربائي وأصدقائي، في مطلع رمضان 2006، حيث ألقيت رؤوسهم المقطوعة على حافة الشارع العام وسط القرية، ولم يظهر خبر ذلك في أي وسيلة إعلامية، وكأن شيئا لم يكن، فشرعت في تدوينه أنا لكي لا يطوي النسيان المظلومين على هذا النحو المجاني. ثم بذلت جهدا كبيرا في البحث والتقصي ونزيف المشاعر، لإعادة ترميم الحدث وما قبله وما بعده، ومن خلال ذلك رسم صورة بانورامية لما حدث في العراق عموما. لذا؛ فإن اعتبار هذا العمل مرجعا لفهم تاريخ العراق الحديث، يعد مكافأة حقيقية لما بذل فيه من جهد، فقد كان هذا أحد الأهداف الرئيسية من كتابته”.
وحظيت رواية “حدائق الرئيس” بالاهتمام الكبير من قبل النقاد والقراء والصحافة الثقافية والترجمات، منذ صدورها وإلى اليوم. ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية سنة 2013، ونالت ترجمتها الإنجليزية التي أنجزها لوك ليفغرين جائزة القلم الدولي 2016، وجائزة سيف غباش بانيبال 2018، وصدرت في ثلاث طبعات إنجليزية، في لندن وأميركا وأستراليا، حيث وصفتها صحيفة “فاينانشال تايمز” بأنها “رواية ترصد تحولات التاريخ، مخلفات الدكتاتورية الدموية والغزو والاحتلال. تذكر بأجواء القرية الصغيرة الغرائبية في ‘مئة عام من العزلة’. إنها صادمة وساحرة”.
وكتبت صحيفة “الغارديان” عن الرواية “رغم جذورها المحلية، إلا أن مواضيعها عالمية أيضا. وهي بحث عميق في الحب والموت والظلم، وتأكيد لأهمية الكرامة والصداقة ومعنى الحياة وسط القمع. أحداث الرواية مأساوية بلا شك، ولكن لمسات الفكاهة فيها تجعل من قراءتها متعة كبيرة. تنقل الشخصيات، من خلال المناظر الطبيعية الجميلة في البلاد والحروب الرهيبة التي عاشتها، إحساسا واضحا بمعاناة الأمة العراقية، مع ازدراء دائم للنزعات الإقصائية والدعائية. أما القرية، فيصورها الكاتب بشكل مكثف، كما وصف ماركيز قريته ماكوندو وشخصياتها، بشكل رائع. حبكة الرواية حاذقة ومحنكة، ذات أحداث متنوعة، ومليئة بكشف الأسرار. إن سقوط بغداد الفوضوي على يد الأميركيين، والواقعية المهلوسة، التي رسمت بتفاصيل رمزية، تذكرنا بغروسمان، وينحا الأسلوب أحيانا، للتشبه بتولستوي، في تركيزه على التفاعل بين الشخصيات خلال تدفق نهر الزمن ‘الذي يمر من بينها وحولها’، وفي إحساسه بالحياة الفردية وعلاقتها بالمجتمع… محسن الرملي من نجوم الأدب العربي المعاصر”.
وترجمت رواية “حدائق الرئيس” إلى لغات أخرى كالإسبانية والإيطالية والبرتغالية والكردية، وكتبت عنها الكثير من المقالات والدراسات الأكاديمية ورسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه. وبعد نفاد الطبعة الأولى للترجمة الإسبانية سنة 2018، صدرت مؤخرا الطبعة الثانية بصيغة القطع الصغير/ طبعة الجيب واسعة الانتشار، عن دار آليانثا العريقة، وتوزيعها في البلدان الناطقة بالإسبانية، وقدمت في منابر وأنشطة عديدة كمعارض الكتب في مدريد والمكسيك، وكتبت عنها كبريات الصحف الناطقة بالإسبانية، كالباييس التي خصصت صفحتها الأخيرة لحوار مع المؤلف، وفي مجلات ثقافية وأكاديمية محكمة، وأجريت لقاءات تلفزيونية، ونوقشت في العديد من أندية القراءة في إسبانيا والمكسيك والأرجنتين وغيرها.
وصفتها صحيفة “الباييس” بأنها: رواية كرسها مؤلفها لشعبه، لسرد تاريخه الحديث تحت القبضة الحديدية للدكتاتور. ومن مفارقات الأدب والحياة، أن حدائق الرئيس تلك، المتعفنة بالموت، تفوح منها رائحة جماليات سرد “مئة عام من العزلة”، التي كانت السبب في شغف الرملي باللغة الإسبانية. فيما قالت صحيفة “آ.بي.ثي”: يصور الرملي في “حدائق الرئيس”، المتأثرة براوية أميركا اللاتينية عن الدكتاتورية، تاريخ عراق يقوده طاغية دون أن يسميه، كناية عن أي دكتاتور آخر، كالزعيم الليبي أو “بطريرك” ماركيز، ولكن من خلال حياة البسطاء الذين عانوا الدكتاتورية والحروب والحصار.
واعتبرتها جريدة “دياريو باسكو” رواية فهرس للتعذيب في تاريخ العراق تحت الدكتاتورية. إنها تحقيق دقيق وبالغ الجدية. كتالوج العذاب الذي يعطي فكرة قوية عن تاريخ ذلك البلد، وقد تم تدوينه، على أفضل نحو، من قبل مؤلف خبير به كما ينبغي. وتطابقت وجهة نظر صحيفة “20 مينوتوس” الإسبانية مع صحيفة “إيكونوميست” البريطانية، بالقول عن هذه الرواية: إنها تاريخ أدبي لبلاد كاتبها، في ظل ذلك الطاغية الذي لا يرحم. تبدو خيالية، لكن أغلبها يستند إلى واقع وشخصيات حقيقية.
هذا عدا ما كتب وقيل عنها عربيا من قبل كبار النقاد والكتاب العرب، وهكذا فإن هذا التقييم العالي من قبل مجلة “إيكونوميست” الأسبوعية المقروءة عالميا ويثق بها الملايين، يعد بمثابة تتويج لكل ذلك. ويعبر الرملي الذي صدر له أكثر من عشرين كتابا بين النصوص القصصية والروائية والمسرحية والشعرية والدراسات والترجمات باللغتين العربية والإسبانية، عن اعتقاده بأن خيار المجلة المرموقة قد أنصف روايته بتصنيفها كمصدر ومرجع أساسي، من بين خمسة كتب أخرى، لفهم ما حدث في العراق ومازالت تبعاته قائمة حتى الآن.
أهمية الأدب
يقول الرملي “لقد سرني أيضا أن يكون هذا التنويه القيّم بأعمال هي أدبية فنية، واعتبار المجلة الأعمال الأدبية مصدرا ومرجعا لفهم أحداث وتاريخ وحاضر واقعي، فهذا يعلي من شأن وقيمة الأدب والفنون والأعمال الأدبية، وخاصة الروايات، وأهميتها، والتي مازال البعض يعتبرها مجرد خيال للتسلية، ويستخف بها قراءة وكتابة، بينما هي في حقيقتها وثائق يشهد من خلالها الكاتب على عصره، وصورة للإنسان تعينه كثيرا على فهم ذاته وفهم محيطه بظروفه وناسه وزمانه ومكانه”.
ومهدت مجلة “إيكونوميست” في اختيارها للكتب الخمسة لافتة إلى أن “العراق وريث لتراث ثقافي عظيم. بلاد ما بين النهرين، الأرض الواقعة بين نهري دجلة والفرات، هي المكان الذي ظهرت فيه المدن الأولى منذ حوالي 5000 عام، ولهذا السبب ينظر إلى العراق المعاصر على أنه ‘مهد الحضارة'”.
وفضّلت المجلة أن تختار ثلاث روايات من الكتب الخمسة التي عدتها مهمة لفهم ما حدث في العراق، وهي “حدائق الرئيس” لمحسن الرملي، التي تتناول قرابة نصف قرن حافل بالعنف من تاريخ العراق، و”وحدها شجرة الرمان” لسنان أنطون، التي تدور أغلب أحداثها في مغسلة للجثث، و”فرانكنشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي، التي تصنع شخصية فريدة من أشلاء الجثث التي سببتها الانفجارات، فضلا عن كتابين آخرين، هما “بغداد: مدينة السلام، مدينة الدم” لجوستين ماروزي و”الحرب بدأت: كيف أخذت إدارة بوش أميركا إلى العراق” لروبرت دريبر.
◄ اختيار الأعمال الأدبية مصدرا لفهم التاريخ والواقع يعلي من شأن وقيمة الأدب والفنون والأعمال الأدبية وخاصة الروايات
ويعلق الرملي على ذلك “شيء رائع أن يتم هذا التعامل الجاد مع روايتي وروايتين لصديقين عزيزين، حيث أنتج الكتاب العراقيون في العقدين الأخيرين أعمالا روائية كثيرة ممتازة وناجحة. وهناك العشرات من الروايات العراقية التي تستحق الترجمة والتعريف بها عربيا وعالميا، لأنها تشهد بحق على ما حدث في هذا البلد، وعلى نضج الإنتاج الروائي الفني العراقي، وآمل أن تنويهات، كهذه التي قامت بها مجلة ‘إيكونوميست’، تفتح الطريق، بشكل ما، للمزيد من الانتباه والترجمة والاهتمام بالأدب العراقي عموما”.
وعزت المجلة خيارها للروايات الثلاث إلى أنها مليئة بالجثث، وهي نتيجة لما شهده العراق من حياة دموية بعد احتلاله من قبل القوات الأميركية والحرب الطائفية التي أدارتها الميليشيات المدعومة من إيران.
وقدمت مجلة “إيكونوميست” للرواية بالقول: عندما لاحظ إسماعيل، وهو راعي ماشية، تسعة صناديق موز على جانب الطريق، في اليوم الثالث من رمضان عام 2006، أصيب بالحيرة. وبسبب الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة بعد غزو العراق للكويت عام 1990، كان من النادر أن يشاهد الموز في العراق. ولكن الصناديق لا تحتوي على الموز. كل واحد منها يحمل رأس إنسان.
يذكر أن أحداث رواية “حدائق الرئيس” تقع على ساحات القتال الملوثة بالأسلحة المشعة خلال حرب الخليج، وفي رماد ثورة مخنوقة في مهدها. وتحكي قصة أحد هؤلاء العراقيين المقتولين، إبراهيم “قسمة”، وصداقته مع رجلين آخرين: طارق “المندهش” وعبدالله المعروف بـ”كافكا” نسبة إلى “الكآبة” “والحزن المتجذر في عينيه”. يكبر الرجال الثلاثة معا، لكن حياتهم تتباعد. تم تجنيد عبدالله وإبراهيم للقتال في الحرب العراقية – الإيرانية في الفترة من 1980 إلى 1988، يبقى طارق في المنزل ويصبح زعيما دينيا. عندما يترك إبراهيم القوات المسلحة، يجد عملا في حدائق الرئيس الذي لم يذكر اسمه، حيث يلتقي بزعيم متقلب وقاس في الوقت نفسه. ويقرر إبراهيم مخالفة نظامه خفية، مما يؤدي هذا إلى قطع رأسه في النهاية، ولم شمل أصدقائه في حزنهم.. كيف اكتسب هذا الرجل الصالح والمتواضع عداوة الكثيرين؟ ماذا فعل ليستحق مثل هذا الموت؟ تكمن الإجابة في عرض صداقته الحقيقية الدائمة مع عبدالله كافكا وطارق المندهش، ولكل منهما قصصه الرائعة التي يرويها.