"محرّر أدبي" تحت الطلب

الآن يمكن أن نوجه النقد المباشر إلى عدد من الكاتبات والكتّاب الذين بدأوا بممارسات فيها روائح فساد ليست خافية كثيرا بدعوى “المحرر الأدبي” الذي أسيء فهم دوره الخفي في التنقيح والتصحيح ومعالجة النص بخبرة ثقافية، ليتحوّل بقدرة قادر إلى “مؤلف” في الظل مقابل حفنة من المال، ويعيد كتابة الخواطر والإنشاءات المدرسية والحدّوتات البسيطة إلى روايات بأغلفة براقة تحمل الرقم الدولي، وتشارك في جوائز الرواية العربية الكثيرة، وتُعقد لها الندوات الأدبية بحضور أصحابها-صاحباتها، بشكل طبيعي كما لو أنّ شيئا لم يحدث، فالمال مقابل الكتابة الثانية صفقة رائجة اليوم في سوق الرواية، بعدما تحولت إلى موضة اجتماعية أكثر منها أدبية-ثقافية-إبداعية.
لم يحفل الواقع الأدبي العربي بوجود عنصر مهم في العمل الإبداعي اسمه “المحرر الأدبي” إلا في فترة متأخرة، دعت الحاجة إليه بعدما توسعت سوق الرواية بشكل لافت، وبالرغم من أن صفة المحرر الأدبي لم تأخذ صيغة التقليد الثقافي في أروقتنا الأدبية العربية لأسباب تتعلق بالجينات الشرقية الرثة وشيوع الأنا وفخامتها الأسطورية فينا، إلا أن مثل هذا التقليد باستقدام أو صناعة أو خلق جيل من المحررين الأدبيين نراه موضوعة فريدة في تبنيها الأثر السردي على سبيل المثال، وهو الأثر الذي يصلح أكثر من غيره لمبضع المحرر الأدبي الذي سيكون بمهاراته الفردية وحسّه الإبداعي “كاتبا ثانيا” أو صانعا ماهرا أو صائغا دقيقا لمجمل أحداث السرد الذي يؤتَمن عليه.
المحرر الأدبي بهذه الصيغة الفريدة -كما يجري في الآداب الأوروبية- هو الكاتب الظل المتواري بحسه الجمالي والنقدي، وهو أكثر من ناقد وأحيانا لا نغالي إذا قلنا إنه المخفي من الأثر السردي الذي يظهر في وقته المناسب، ونعتقد وجوب وجوده في آدابنا العربية لو ظهر مثل هذا المحرر الذي يبتدع النص من جديد ويضفي عليه لمسات لا يراها الكاتب الأصلي، وبالتالي فمثل هذا المحرر هو قارئ من درجة خاصة ومتميزة، وناقد أعلى شأنا من الناقد المحترف و”مؤلف” مجهول لم يحترف الكتابة إنما احترف الفعل الإبداعي بنبوءة شخصية قادتها المعارف والثقافات والوعي الجمالي في تعقيب الأثر السردي.
لنا في هذا روائيون وأدباء عملوا محررين ناجحين كتوني موريسون التي عملت محررة أدبية لأعمال هنري دوماس وعزرا باوند “الصانع الأمهر” لقصيدة “الأرض اليباب” لـ”ت.س. إليوت”. وفرانسيسكو بوروا محرر روايات ماركيز. غير أنّ الأمر كما يبدو تعدّى هذا الواجب الأدبي إلى تفسير قسري آخر أمام هذا المدّ العربي الطائش في كتابة الرواية لضبط شيء من غرائزها الفنية، فاستُعينَ بالمحرر الأدبي كمظلة تمرّ من تحتها سرديات الذين لا سردية لهم سوى الوجاهة الاجتماعية؛ وحقيقة الأمر هي ليست كذلك، بل هي مظلة فساد ثقافي تمرّ من تحته ألاعيب البعض ممن وجدوا فائضا في أموالهم لينشروا روايات بأسمائهم الصريحة من دون حرج أو قيد ما دام الأمر سريا إلى هذا الحدّ تحت تلك المظلة التي أصبحت غطاء لتشويه سمعة الرواية في ظاهرة جديرة بالانتباه والتحري والتصدي لها أيضا. بل إن الأمر وصل إلى بعض الجوائز العربية المعروفة.
بعض الأدباء الذين وجدوا في أنفسهم قدرة جيدة على التحرير والتصحيح والتحوير انقادوا أمام هذا الإغراء المادي ليفسدوا الكثير من الصورة المثالية التي نراها بعيون قارئة واعية، فأصبحوا مثل حلّابات الأبقار يتنقلون بين مزارع الهواة والعجزة وكسالى الموهبة من أجل قبضة دولارات صغيرة تزيد من وطأة المشكلة وتعقّد الكثير من احتمالات التصحيح وفضح عجائز السرد وهواتها الذين وجدوا في “المحرر الأدبي” المزعوم مظلة فساد يمرروا من تحتها أسوأ أنواع الكتابات.