محامون في مصر أوصياء على المجتمع باسم الفضيلة

تحولت شبكة من المحامين في مصر إلى ما يشبه الجلادين، حيث يقومون برفع قضايا ضد من يعتقدون أنهم يخرجون عن الأعراف والتقاليد، وغالبا ما يحصلون على أحكام بالحبس. ضحاياهم عديدون منهم الفنانون والمثقفون والسياسيون، وحتى من بتن يعرفن بـ”فتيات تيك توك”. بعضهم يسعى وراء الشهرة والآخر ينشد التقرب من دوائر حكومية، بحجة معاقبة من يزدري تقاليد المجتمع.
القاهرة – قبل ثلاث سنوات تقريبا التقت “العرب” المحامي المصري الشهير سمير صبري في مكتبه الواقع بالقرب من الجامع الأزهر بوسط القاهرة. كانت طرقات وغرف المكان أشبه بلوحة إعلانية تتراص فيها القصاصات الصحافية التي تتحدث عن بلاغات الرجل ضد فنانين وسياسيين ومفكرين وإعلاميين ومثقفين، يصنفهم الرجل على أنهم ارتكبوا فاحشة تستحق العقاب.
وقتها سألت “العرب” صبري عن سبب هوايته تقديم بلاغات تطالب بمحاكمة كل من يخرج عن التقاليد والأعراف تحت مسمى “حماية الفضيلة”، فكان رده “من مهام المحامي حماية المجتمع من الذين ينتهكون قيم الأسرة وينشرون الفاحشة ويبثون أفكارا هدامة في عقول الناس تحت مسمى حرية الرأي والتعبير”.
لدى صبري غرفة بها مجموعة من المحامين الشباب كل منهم يجلس وأمامه جهاز حاسب آلي، ويقومون بتصفح المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، لاكتشاف أي هفوة أو خطأ قام به فنان، مطرب، مفكر، إعلامي، يراه المحامي خارجا عن النص، ليبدأ التحرك بتقديم بلاغ ضد من يراه مدانا بالإساءة للمجتمع.
تعكس هذه الحالة لأي درجة تحولت فئة من المحامين إلى رقباء على المجتمع، لأن صبري يعكس نموذجا شائعا الآن، يتلقفون الكلمة والفعل ويقومون بوضعها في ميزان الفضيلة، ليحكموا بعدها هل يمكن محاكمة الشخص أم لا، وإذا كانت الإجابة بـ”نعم”، من وجهة نظرهم يتم تقديم البلاغ كرسالة ترهيب لمن تسول له نفسه تجاوز قناعاتهم.
وأعادت أحكام الحبس التي صدرت بحق فتيات يستخدمن تطبيق “تك توك” في أعمال رآه القضاء مجرّمة تراوحت بين ثلاث إلى عشر سنوات، الحديث عن مخاطر تحول المحامي إلى جلاد، لأن الفتيات تم سجنهن بناء على بلاغات تقدم بها بعض المنتسبين لمهنة المحاماة بدعوى “تنظيف المجتمع” من الذين يروجون للفسق والفجور ويحرضون على الرذيلة.
المحامي صبري هو الذي حبس حنين حسام وريناد عماد، وآخرون كانوا سببا في وضع مودة الأدهم و4 من فتيات “تيك توك” خلف القضبان، بدعوى تجاوزهن الخط الأحمر الذي يضعه حراس الفضيلة ولا يسمحون لأي شخص بالمجتمع أن يتخطاه، ولو يستهدف المصلحة العامة.
وجاءت حالة الفنان إيمان البحر درويش كنموذج جديد، فبمجرد انتقاده سياسة الحكومة في تعاملها مع قضية سد النهضة الإثيوبي، انهالت عليه اتهامات الخيانة وخدمة مصالح الجماعات الإرهابية ومحاولة زعزعة الاستقرار وإثارة الرأي العام، وكلها بلاغات تقدم بها محامون لدرجة أن الفنان استغرب محاولات شيطنته.
محاكمات بالجملة
صار هناك محامون معروفين بالاسم عند كل فئات المجتمع المصري، يعرفهم الناس عن ظهر قلب، وأصبح بعضهم يتوقع محاكمة هذا الفنان أو المفكر قبل تقديم بلاغ ضده إذا قال عبارة غير مألوفة، حيث اعتاد المجتمع مثل هذه البلاغات التي غالبا ما تكون مرتبطة بالمشاهير أو قضايا جماهيرية.
أزمة التشريعات في مصر أنها تمهد الطريق لأيّ شخص في المجتمع لمقاضاة الآخر حتى لو لم تكن له مصلحة مباشرة، فالمحامي الذي يشاهد راقصة ترتدي ملابس مثيرة يتقدم ضدها ببلاغ يتهمها بضرب القيم ويطلب محاكمتها، وبالفعل تستدعيها النيابة وتتحرك الدعوى لرفع قضئية وتعقد جلسات المحكمة لحين صدور الحكم.
ولا يقتنع هذا المحامي أو غيره بأنه يمكن بسهولة ألا يشاهد الراقصة طالما أنها تثير غرائزه، لكنه يتمسك بأن يكون وصيا ورقيبا على أعين المجتمع بأن تُحاكم الراقصة وتُحبس. هكذا تتحرك هذه الفئة من المحامين لتمارس سياسة الابتزاز والترهيب لمن يعتقدون أنفسهم أحرارا، مع أن الدستور كرس حرية الرأي والتعبير.

سعيد عبد الحافظ: البلاغات تنطلق من إيمان محامين بقيم متشددة
وقال سعيد عبدالحافظ رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان إن شبكة المحامين الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على أخلاقيات المجتمع جاءت امتداد لبقايا الظاهرة التي أسستها الجماعات الإسلامية في القرن الماضي بإقامة دعاوى الحسبة الدينية في مواجهة ضد الحكومة والعلمانيين والمفكرين وأصحاب الرأي.
وأضاف لـ”العرب” أن دعاوى الحسبة الدينية تطورت وصارت عبارة عن بلاغات سياسية لترهيب كل من يُدلي برأي مخالف لتوجهات الدولة، وانتهى الأمر بأن صارت دعاوى الحسبة قائمة على منطق الوصاية، والمشكلة أن هذه البلاغات تنطلق بالأساس من إيمان هؤلاء المحامين بقيم متشددة يتمسكون بفرضها على الناس.
وينقسم المحامون الأوصياء على الناس إلى شريحتين، الأولى تبحث عن الشهرة والشو الإعلامي بتقديم البلاغات ضد نجوم الفن والغناء والرياضة والإعلام، والثانية تهدف للتقرب من دوائر صناعة القرار بتحريك دعاوى قضائية ضد سياسيين ونشطاء وأصحاب رأي وكل من يتحدث بنبرة معارضة.
وقبل سنوات كانت الشريحة الأولى مكونة من مجموعة قليلة، بينهم سمير صبري، نبيه الوحش، ومع حصولهما على شهرة واسعة أصبح الأمر مغريا لكثير من المحامين، ليكونوا معروفين عند الناس ويقصدونهم في الترافع عنهم في قضايا كبيرة بحكم أن أسماءهم تتردد بقوة ويعرفهم القضاة جيدا.
أما عناصر الشريحة الثانية، فهم كُثر أيضا، لكنهم يظهرون في المواسم، ويرتبط ذلك بالأحداث السياسية التي يخرج فيها نشطاء ومعارضون عن صمتهم لانتقاد سياسات أو قرارات للحكومة فيجدون أنفسهم من المطلوبين أمام المحكمة بتهمة التحريض على هدم الأمن والاستقرار دون مراعاة لحقهم في الكلمة والنقد بأريحية.
واعترف أشرف فرحات، وهو المحامي الذي أطلق حملة تسمى “تطهير المجتمع”، ورفع من خلالها العشرات من البلاغات، بأن هناك محامين تستهويهم فكرة مقاضاة المعارضين، ليس بهدف وطني، بل لغرض التقرب من دوائر حكومية بعينها، وللأسف يفهم المجتمع على أنهم موجهون لفعل ذلك، والحكومة منهم بريئة، ويمارسون الوصاية بشكل خاطئ.
وقال صاحب الحملة لـ”العرب” إن وصاية المحامي على المجتمع تستهدف مواجهة السلبيات بقوة القانون، لأن القضاء على الجرائم الأخلاقية عموما يحتاج إلى رقابة من أفراد المجتمع لسلوكيات الآخرين، والتشريعات منحت الحق لأي شخص فعل ذلك، طالما يستهدف المصلحة العامة.
وأضاف “أتمنى لو يتم تعييني وصيا حقيقيا على المجتمع لأغلق كل التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي التي تؤثر سلبا على القيم والأخلاق، وتصور صورة مغلوطة عن البيئة المصرية، وتغذي عقول الشباب بأفكار سلبية”.
تكميم الأفواه

يرى مراقبون أن خطورة الوصاية على المجتمع من رجال القانون تكمن في تكميم الأفواه وتجعل كل من يرغب في الإقدام على قول أو فعل شيء يبحث من خلاله عن تغيير ثقافات وعادات بالية تغذي التخلف والجهل، يخشى على نفسه من تهمة ازدراء القيم المجتمعية، وكأنه يزدري الدين.
ويمكن البناء على ذلك بأن وصاية الدين على المجتمع لم تعد وحدها التي تحول دون تحضر العقول وتعزز الانفتاح الثقافي والفكري، فهناك محامون لا يتراجعون عن تصرفاتهم بتحولهم إلى رقباء يلزمون الناس على السير وفق رؤاهم الشخصية، وقناعاتهم التي تربوا عليها بأن كل فعل لا يناسبهم يستحق صاحبه المحاكمة.

أشرف فرحات: أتمنى لو يتم تعييني وصيا حقيقيا على المجتمع
وأصبح من الأمور العادية أن تجد فنانا مطلوبا في المحكمة لمجرد أن البوستر الدعائي لفيلمه يتضمن قبلات أو أحضانا، مع أن هذا التصرف قد يحدث في الشارع خلسة، لكن تصديره للناس كمشهد سينمائي جريمة يعاقب عليها الفنان وفق رؤية هذا المحامي أو غيره. وبالمثل، أي أغنية أو قصيدة شعرية أو مسرحية حوت عبارة أو كلمة غير مألوفة تخضع للمساءلة سريعا.
ولعل أغرب بلاغ تقدم للنائب العام بهذا الشأن قبل أيام، هو اتهام الفنانة هيدي كرم بالشذوذ مع ابنها، لمجرد نشرها صورة تجمعها مع ابنها الشاب وهي تحتضنه وتقوم بتقبيله حتى خرجت على الإعلام ودافعت عن نفسها بطريقة توحي بأنه لا تصدق ما يتردد عنها، واستنكرت حالة التربص التي صارت تحيط بالناس وتصرفاتهم والتدخل الفج في حياتهم الشخصية.
وهناك المئات من الحالات المماثلة التي تعكس حجم التضييق الذي يمارسه بعض المحامين على حياة الناس وإلزامهم بإطار محدد لا يخرجون عنه، بذريعة الحفاظ على القيم المجتمعية والسير وفق العادات والتقاليد مهما كانت بالية وتعود بأفراد المجتمع لعصور بالية، وهو نفس المنطق الذي يتعامل به رجال الدين المعروف عنهم التشدد.
وغالبا ما تحظى بلاغات المحامين الرامية لوضع الناس تحت وصاية القانون، بدعم ديني من شيوخ وعلماء بالمؤسسة الدينية، اعتادوا إصدار فتاوى تحرم الأفعال التي يحاكم بسببها الأشخاص، مهما كانت خلفياتهم والمهن التي يعملون فيها، المهم ألا يعيش الناس أحرارا، ولا يتجاوزون الخطوط الحمراء التي يحددها المحامي أو رجل الدين.
ويعيب كثيرون على المؤسسات القضائية في مصر أنها تحرك الدعاوى الجنائية التي تكرس للوصاية على المجتمع، وتجعل كل أفراده محبوسين في إطار ضيق ولا يمتلكون الحد الأدنى من حرية القول والفعل، لكن هناك من يلتمس الأعذار للقضاة، باعتبار أن التشريعات الراهنة تطبق منذ عقود وتحكم عملهم وتجعلهم مضطرين للنظر في البلاغات.
شركاء لا أوصياء

أكد سعيد عبدالحافظ رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لـ”العرب”، أنه لا بديل عن تغيير القوانين المصرية التي جعلت كل أفراد المجتمع رقباء على الآخرين، لأن ما يحدث يكرس لتصرفات تجاهد الحكومة لتغييرها بأن يسود التسامح والتعايش واحترام الآخر مهما كانت قناعاته وأفكاره وملابسه ليصبح الجميع شركاء لا أوصياء.
وما يثير استفزاز الكثير من الشرائح المجتمعية الواعية أن المحامين المعروف عنهم فرض قناعاتهم على الناس يتباهون بكونهم أوصياء على الكبير والصغير، بل إن بعضهم يجبر ضحاياه على الاعتذار والندم والتعهد بعدم تكرار ما حدث نظير التراجع عن مقاضاتهم، وهو ما يمنحهم سطوة أكبر للسيطرة والتحكم في حياة الناس.
المحامي وحيد الكيلاني الذي تقدم ببلاغ ضد الفنانة رانيا يوسف بسبب ارتداء فستان كشف جانبا من جسدها في مهرجان القاهرة السينمائي العام الماضي، سحب الدعوى القضائية بعد اعتذارها، وقال آنذاك “نعم نحن أوصياء على المجتمع، ولن نسمح بالعُري والإسفاف، واعتذار الفنانة سيقابله العفو عنها”.
ويوحي هذا التصريح وما يرتبط به من قناعات صاحبه، بأن هناك محامين يتعاملون كأنهم مسؤولون عن تطبيق الشرع وتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدليل أن الكيلاني استشهد بنص فقهي خلال بلاغه ضد رانيا يوسف.
بلاغات المحامين الرامية لوضع الناس تحت الوصاية تحظى بدعم ديني من شيوخ اعتادوا إصدار فتاوى التحريم
المعضلة أن أغلب القضايا التي يحاكم فيها من يخرج عن العرف والتقليد تحظى بإشادة بعض الشرائح المجتمعية التي مازالت تقدس العادات البالية، ولا تسمح لأفرادها أو الآخرين بالخروج عنها حتى صار بعض المحامين عقبة أمام المجتمع المعاصر لأن يتطور ويكون أكثر انفتاحا وتحضرا واحتراما لخصوصية الآخرين.
وأصبحت الحكومة تواجه أزمة في نشر ثقافة الاختلاف والتعددية والانفتاح في المجتمع عبر الفن أو الثقافة أو الإعلام أو المناهج التعليمية، لأن ما تتضمنه خطابات هذه المؤسسات ورسائلها ومحتواها يواجه بترهيب من جانب رجال القانون والدين معا.
ويكفي أن القضية التي تداولتها محكمة القضاء الإداري منذ سنوات لإلزام الأزهر بتنقيح التراث من النصوص الفقهية المتشددة التي لم تعد تصلح لهذا العصر تبرع أحد المحامين المعروف عنهم رفع قضايا “الوصاية المجتمعية” بالترافع فيها نيابة عن المؤسسة الدينية.
وأقنع المحامي هيئة المحكمة بأن التدخل في التراث يهدم السنة النبوية ويشكك الناس في الدين، حتى تحولت القضية إلى جدل فقهي، وقضت المحكمة برفض الدعوى وبناء عليه أصبحت المؤسسة الدينية تمتلك حصانة قانونية ضد من يطالبون بتنقيح التراث.
يقود ما سبق إلى أن تعدد الوصاية على المجتمع سواء كانت قانونية أو دينية، يكرس الانغلاق الفكري ويجعل الكلمة أسيرة لرؤى الجهات الرقيبة عليها، وينتقل ذلك بالتبعية على سلوكيات الأفراد داخل المجتمع الواحد، فيتحول كل فعل غير مألوف إلى جريمة تستحق المساءلة بدعوى التطهير وحماية القيم.