محاكمة شعبية للأزهر تمهد لوقف استغلال الوصاية الدينية لأغراض سياسية

راكم إصرار الأزهر على التمسك بفتاوى دينية لم تعد تناسب الوقت الراهن الغضب الشعبي ضده، ولئن كانت الأصوات المعارضة سابقا تصدر عن منظمات وشخصيات لها وزنها السياسي أو الاجتماعي، إلا أن الحملة العفوية التي أطلقها نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس تراجع شعبيته، وهو ما قد يقود إلى إنهاء وصايته الدينية على المجتمع.
القاهرة - أظهرت الحملة الإلكترونية التي استهدفت مؤسسة الأزهر في مصر مؤخرا حجم تذمر شرائح مختلفة من تمسكه بمواقفه المتحجرة تجاه العديد من القضايا الملحة وإصراره على عدم تطوير خطابه المستند إلى نصوص فقهية عفا عليها الزمن وأصبحت محل شكوك من قبل بعض رجال الدين أنفسهم.
وانتشر هاشتاغ “يسقط حكم الأزهر” على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر أخيرا، وهو ما أوحى بأن فئة كانت تدعم المؤسسة الدينية في مواقفها وصلت إلى حالة من الغضب بعد أن ضاقت ذرعا بتشدد الأزهر في عدد من الفتاوى التي تمس قضايا جدلية تحتاج إلى مناقشة موضوعية.
مشكلة الأزهر وأنصاره الذين دعموه في مواجهة الغضب الذي تصاعد ضده أنهم اختزلوا خصومه في جماعة الإخوان المسلمين.
وحاول أنصار الأزهر اتهام معارضيه بالأخونة كنوع من الترهيب وإسكات الفئة التي ضاقت ذرعا بتصرفاته وتصوراته، لكن جاءت الرياح بما لا يشتهون وارتفعت نبرة الرفض للرؤى الفقهية التي يتبناها ومصدرها التراث.
كل معارض إخواني
وبدت مبررات المعارضين للأزهر عاكسة إلى حد كبير انفتاحهم، وهو ما يبعدهم عن التماهي مع أفكار وقناعات الإخوان أو حتى الشريحة العلمانية التي درجت على رفض ممارسات الأزهر وحضت دوما على إدخال تعديلات في توجهاته حيال العديد من القضايا التي تهم الرأي العام.

واستثمرت بعض الأصوات التي تختلف معه تصدر وسم “يسقط حكم الأزهر” للتعبير عن رؤيتها المرتبطة بأسباب رفض الوصاية الدينية من جانبه على المجتمع.
وهناك من دافعوا عن الموقف الرافض للهيمنة الدينية واعتمدوا على فكرة أن الأزهر تخطى حدود العقل والمنطق في تنصيب نفسه وصيا على الناس وسلوكياتهم بذريعة أنه الحارس الأمين على الدين، وآخرون تساءلوا عن الخطوات التي اتخذها لمواجهة الأفكار المتشددة والفتاوى العرجاء ولتجديد الخطاب الديني.
وطرح هذا الفريق تساؤلات دون إجابات على أمل أن يجدها عند علمائه، منها ما يتعلق بموقفه من المناهج الدينية في معاهده وكلياته ومدى حرصه على تنقيحها وتخليصها من النصوص التي تحض على العنف والكراهية وتعادي التسامح وتكرس التمييز والعنصرية، والتحرك بخطوات بطيئة في مسألة تطوير التعليم الديني والتوقف عن تقديم أجيال تكرس ربط الدين بكل نواحي الحياة بلا أدلة علمية، حتى أصبح المجتمع أسيرا لفتاوى متعددة حول الحلال والحرام.
ويرى مراقبون أن إطلاق وسم “يسقط حكم الأزهر” وانتشاره بعثَا رسالة الكثير من الفئات المنفتحة، والتي يفيد مضمونها بضرورة حدوث استفاقة من المؤسسة الدينية، وتدرك تلك الفئات أن ذلك لن يتحقق إلا بإجراء يمكن اعتباره محاكمة شعبية لكيان تخطى حدود صلاحياته.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن أزمة الأزهر تكمن في اهتمامه بالدفاع عن قدسيته وحصانته والهجوم على خصومه أكثر من انشغاله بالملفات الملحة، فهناك قضايا يتم غض الطرف عنها خشية اهتزاز صورته ودخول معارك تفقده ما تبقى له من شعبية.
وقال سامح عيد الباحث المتخصص في شؤون الإسلام السياسي لـ”العرب” إن “الأزهر لا يستطيع الدخول في مواجهة مع السلفيين والإخوان أو أيّ فصيل ديني له توجهات سياسية، لأن هذه التيارات تمثل بالنسبة إليه القوة التي يستند إليها في مواجهة الحكومة والفئات المعارضة لتوظيف التراث في كل كبيرة وصغيرة، بحكم أن الكثير من قادة المؤسسة الدينية لهم توجهات تتعارض مع الانفتاح”.
سلبية مستفزة
وسئم بعض معارضي الأزهر من سياسة الوقوف على الحياد في الكثير من المسائل الدينية، حيث غالبا ما يترك الباب مواربا للاجتهادات كي لا يُقحم نفسه في مواجهة مع فئات متدينة بالفطرة باعتبار أنها تمثل الظهير الشعبي الذي تأسس وتربى على التراث والنصوص الفقهية القديمة ولا يقبل تغييرها أو الاقتراب منها.
وترتب على سياسة التجاهل التي ينتهجها الأزهر نشاط جبهات تختلف في الرؤى، لكنها متفقة على هدف واحد مرتبط بإسقاط فكرة الوصاية الدينية على الناس، فلم يعد من المقبول بالنسبة إليها أن يبقى المجتمع أسيرا لفتاوى وتعليمات مؤسسة معينة وكل من يخالفها يتحول إلى عدو للدين.
وتوجد أصوات ساندت الأزهر وأضرته في الوقت نفسه، حيث اتهمت معارضيه دون تمييز بأنهم “خونة وأعداء للدين ويحاولون نشر العلمانية والتحرر الأعمى في المجتمع”ن ما ضاعف غضب المعترضين على الوصاية الدينية بعدما تأكدوا من أن التعامل بقدسية مع الأزهر لن ينتج عنه سوى المزيد من الجهل وتغييب العقول.
وكانت على قائمة الداعمين للأزهر دار الإفتاء، على الرغم من الصراعات الخفية بينهما منذ أن قررت الحكومة نقل تبعية الدار لتكون جهة ذات طبيعة خاصة وتتبع مؤسسة الرئاسة، أي أن سلطة الإفتاء سحبت من الأزهر، غير أن الكثيرين تعاملوا مع هذا الدعم بصورة سياسية وليست دينية، لأن دار الإفتاء جزء من السلطة الحاكمة.
وأضاف سامح عيد لـ”العرب” أن “مشكلة الأزهر مع معارضيه تكمن في أنه يردد خطاب الإخوان والسلفيين -وإن حاول أن يدخل على هذا الخطاب تعديلات نسبية- ويدافع عن قدسيته ونفوذه بعصبية، لذلك لا يستطيع تقديم صورة متحضرة للإسلام وأغلب قراراته وسياساته وفتاواه تتفق مع النصوص القديمة التي يلفظها المنفتحون في المجتمع، ما دفعهم إلى محاكمته شعبيا وفكريا”.
واستبعدت دوائر سياسية أن تكون جهات حكومية وراء الهجمة التي تعرض لها الأزهر، لأنها تُدرك خطورة إقدامها على هذه الخطوة بعد أن نجحت المؤسسة الدينية في تكوين شعبية على وقع خلافاتها المتكررة مع النظام، وقدمت نفسها لخصوم السلطة كقوة دينية لا يستهان بها في حمايتها لما تعتقد أنه من ثوابت الإسلام.
الغضب نسائي
كما أن تبرع وسائل إعلام مملوكة للحكومة بالدفاع عن الأزهر في نفس توقيت الهجوم عليه عكس عدم ضلوع جهات رسمية في الحرب الموجهة ضده، خاصة أن الكثير من وسائل الإعلام المعروف عنها ولاؤها للسلطة حاولت ترهيب المشاركين في وسم “يسقط حكم الأزهر” بأنهم سيواجهون السجن لأنهم يحضّون على هدم إحدى مؤسسات الدولة.
ومن غير المتوقع أن يغير الأزهر مواقفه المتحجرة بشأن الكثير من القضايا الدينية، وهي المعضلة التي أصبحت تضعه دائما في مرمى نيران الغضب بعد أن جعل من نفسه أشبه بدولة داخل الدولة مستندا إلى أنه المرجع الرئيسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، وفق ما نص عليه الدستور المصري الصادر في عام 2014.
وكان لافتا أن النساء بَدوْن الشريحة الأكبر التي شاركت في الوسم المطالب بسقوط حكم الأزهر، وهو ما يراه البعض طبيعيا مع شعور المرأة بأنها مستهدفة من المؤسسة بفتاوى عفا عليها الزمن، بعضها يتضمن حضّا على العنف ضدها.
وارتبط تذمر النساء المصريات بالفتوى التي حرمت على أي امرأة أن تخرج من بيتها متزينة دون الالتزام بالحجاب، وجاءت ردا على تصريحات متلفزة أطلقها سعدالدين الهلالي أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، وشككت في فرضية الحجاب.
وعاد الأزهر ليؤكد أن حجاب المرأة فرض عين على كل مسلمة بالغة عاقلة أقرته مصادر التشريع الإسلامي بنص القرآن وإجماع فقهاء المسلمين، وما يتداول من محاولة لنفي فرضية الحجاب وتصويره أنه عادة أو عرف انتشر بعد عصر النبي هو رأي شخصي يرفضه الأزهر، مشيرا إلى أن الحرية في فهم النص منهج
علمي فاسد.
وأكد سامح عيد لـ”العرب” أن “الأزهر لن يتوقف عن تقديم نفسه وصيا على الدين والعرض وأجساد النساء قبل أن يكف عن التعامل بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضع لنفسه حدودا للتدخل في حياة الناس، ويتبرأ بشكل واضح وصريح من انسجامه مع كل من الإخوان والسلفيين، ويراجع النصوص التي يستند عليها في فتاواه ليكون مؤسسة دينية سمحة وسطية تخاطب العصر”.
ويصعب فصل التذمر المجتمعي من الأزهر عن الخشونة التي يتعامل بها وإصراره على التعاطي بحدة مع معارضيه، فلا يتحدث إليهم بأسلوب مقنع، ولا يفند رؤاهم ووجهات نظرهم، سواء أكانوا من البسطاء أم من المفكرين والمجددين، حتى أصبح يقدم نفسه دائما على أنه يخوض حربا ضروسا ضد أعداء الدين، وهي نبرة جعلته في مرمى نيران الغضب من أصوات لا هي إخوان ولا هي سلفيون ولا هي رجال دين عقلانيون، وإنما مواطنون قرروا رفع راية العصيان ضد الجمود والوصاية الدينية.