متى نرجو الرحمة للجميع

البشر أصبحوا يتفنّنون في إظهار كرههم لكل من يذكّرهم بالنقص.
الأربعاء 2024/06/19
حياتها كانت أغلبها تحت الأنظار

"في العالم أكداس من الكراهية والحقد لا بد من تصفيتها”. حضرني قول المفكر الإسلامي مالك بن نبي مرات  كثيرة خلال الأيام القليلة الماضية، فكلما فتحت وسائل التواصل الاجتماعي وجدت سيلا من السباب والشتم والكراهية والتعليقات البغيضة تجاه أشخاص كثر، بعضهم يضطرب وينفعل وينشر فيديوهات باكيا وشاكيا ومتذمرا من الهجوم عليه وبعضهم الآخر يقابل الهجوم بهجوم والسب بسب.

كل هذا ونحن إن بحثنا في أصل الأمر لوجدناه بدأ لأسباب تافهة، فهذا يسب ذاك لاختلافه في الأفكار والمبادئ عنه وذاك يسب فنانة لارتدائها ملابس لا تتوافق مع قناعاته، وأولئك يسبون مجموعة لمجرد استمتاعهم بالحياة على طريقتهم الخاصة.

وجاءت وفاة المؤثرة التونسية فرح بالقاضي لتكشف المزيد من خطاب الكراهية، وكأن الجميع تحول إلى قاض يطلق أحكامه على البشر ويتهمهم بالكفر والفجور لمجرد اختلافهم عنه.

فرح التي توفيت أثناء قضاء عطلتها الصيفية في أوروبا برفقة أصدقائها، نتيجة إصابتها بنوبة قلبية في جزيرة صقلية الإيطالية، كانت إنسانا عاديا يعيش تناقضات قد يعيشها أيّ منا، الاختلاف الوحيد فقط بينها وبين العامة أن حياتها كانت أغلبها تحت الأنظار، لذلك رأى الناس ملابسها وسهراتها ورحلاتها وحتى المرات التي اعتمرت فيها ودخلت المساجد لتصلّي.

لكن عين الكاره، الحاسد، الباغض، لا ترى إلا الجانب الذي يستفزها، فقد نسيت أن فرح كائن بشري مثله تتراوح نفسها بين الفجور والتقوى، بين التوازن والتمرد، وكانت دائمة البحث عن ذاتها وعن سلوك وحياة تريحها وتحبها وترضاها. ومن حقها أن تعيش الحياة التي اختارتها طالما لم تضر غيرها.

نعم، من حقنا جميعا أن نعيش بالأسلوب الذي يعجبنا وأن نرتدي ما يعجبنا من ثياب ونتواصل مع من يعجبنا من بشر ونمارس الحياة كما نحب، وليس من حق أحدهم أن يفرض علينا حياة لا تشبهنا أو لا نقتنع بها ونحبها.

ومن حق الإنسان أن يعيش دون أن يهاجمه أحد لاختلافه عنه، أو يكفّره أحد لمجرد أنه لا يمارس الطقوس الدينية التي يتفق عليها الغالبية. من حق الإنسان أن يسير إلى الله عبر الطريق التي تعجبه، كما من حقه الأكبر أن يموت دون أن يدعو عليه أحد لم يعرفه يوما أو يرى منه سوءا بأن يحشره الله في جهنم خالدا فيها.

الهجوم على فرح القاضي ليس الواقعة الأولى، فمواقع التواصل تعج منذ فترة طويلة بخطابات الكراهية، لكنها خطابات تزداد حدة في المناسبات السعيدة، وكأن الكارهين هم أيضا حاقدون على كل سعيد ويبحثون عن أيّ فرصة كي يعكروا عليه صفو حياته.

الكره تفشى وتغلغل في الأنفس العربية وأنفس المسلمين تحديدا، فباتوا يواجهون بعضهم بالسخرية والتشفي في الموتى، متناسين واحدة من أهم الآيات التي تقول “إن الحكم إلا لله” وأن ليس من حق آدمي أن ينصّب نفسه مكان الله في الحكم على البشر.

حتى أجهزتنا العصبية لا تحتمل أن نعيش كآلهة، فنحن بشر، نخطئ ونصيب من بداية العمر إلى آخره.

ويبدو أننا نعيش بالفعل تجسيدا واقعيا لقول نيتشة “لن يتوقف عن كراهيتك دون سبب ذاك الذي كلما نظر إليك تذكر ما ينقصه”، فالبشر أصبحوا يتفنّنون في إظهار كرههم لكل من يذكّرهم بالنقص، بنقص الفرح، نقص السفر، نقص الشهرة، نقص المال والولد، نقص الحب، نقص الحياة. أغلبهم يكررون سيناريوهات توارثوها، يستمتعون بلعب دور الضحية وكأن من يحيا سعيدا مقبلا على الحياة وملذاتها افتك نصيبهم من السعادة والفرح.

هذا بالنسبة إلى الأحياء وهو أيضا بالنسبة إلى الموتى، لماذا يدعو إنسان على غيره بالعذاب ويفرح لموته؟ ألم يحن الوقت لنرجو الرحمة للجميع؟

18