متى تتخلى مصر عن حذرها الإقليمي

يبدو أن الحذر المصري في التعامل مع عدد من الأزمات الإقليمية يتراجع رصيده لدى صناع القرار، وظهرت في الأيام الماضية ملامح لهجة حادة مع إثيوبيا غير مألوفة عقب تنامي العقبات التي تواجهها مفاوضات سد النهضة، تكشف عن اقتراب نفاد رصيد الصبر على أديس أبابا، وربما مع غيرها، لأن هذه السياسة بقدر إفادتها بدأت ترخي بظلال سلبية على القاهرة.
فرضت تطورات داخلية وخارجية على مصر ضبط النفس مبكرا مع أزمات إقليمية قريبة منها، وجنت ثمارا عدة من ورائها مكنتها من إعادة ترتيب أوراقها حتى وقفت غالبية المؤسسات على أقدامها، لكن يصعب أن تواصل دولة، كبيرة أم صغيرة، الانكماش الشديد، لأن هذا النوع من التصورات لن يكون مفيدا على المدى البعيد، فقد يغري بالعدوان على اعتبار أن هذه الدولة لا تملك رفاهية الاشتباك مع الأزمات التي لها علاقة بأمنها القومي.
رسخت بعض التوجهات والتصرفات هذا الانطباع، وحالَ هذا الطريق دون الانخراط في أزمات مفتوحة، أثبتت انعكاساتها أن تدخّل مصر بالقوة المسلحة كان من الممكن أن يجلب عليها خسائر كبيرة. وهذه رؤية صاحبت إدارة الموقف في حالات اليمن وليبيا وإثيوبيا. في المقابل لم يحقق الابتعاد عن الخشونة، ولو في مفهومها اللفظي، كل ما تريده القاهرة لضمان حماية مصالحها تماما في هذه الأزمات.
أدى التردد في تقديم دعم لقوات التحالف العربي في اليمن على الأرض إلى تضخم خطر الحوثيين، ومنح إيران ضوءا أخضر للتمادي في تدخلاتها هناك، واستفادت من تراجع الدور الإقليمي لمصر ومدت أذرعها داخل قطاع غزة الذي يبعد عدة كيلومترات عن حدودها.
جمعت القاهرة الكثير من التفاصيل في الأزمة الليبية، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا، وربما لا أحد ينازعها في معرفة حقيقة ما يدور على الأرض، وفتحت أبوابها لاستقبال العديد من العناصر التي تنتمي إلى قوى مختلفة، ولم تخف انحيازها للجيش الوطني الليبي. كل ذلك أفادها في أن تكون عنصرا في المقاربات التي تناولت الأزمة، لكنه لم يحلْ دون تدخلات سافرة من جانب قوى خارجية ولم يمنع تهديد مصالحها، بل أغرى التريث الزائد تركيا لمواصلة تدخلاتها وإرسال سفن ومعدات وإرهابيين ومتشددين ومرتزقة.
بدت مصر مصدومة من المفاجأة التركية المتمثّلة في عقد مذكرتيْ تفاهم بحري وأمني مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس التي عكست في أحد وجوهها رغبة في حسم الموقف عسكريا لصالح الفريق المدعوم من أنقرة على حساب الفريق المسنود من القاهرة التي حرصت على أن تكون كل أوجه دعمها المادي له في نطاق سري وبحاجة لتبريرات أحيانا، ما عزز فكرة التريث الفائض التي ترسخت لدى دوائر إقليمية منافسة. في مقدمتها تركيا التي حرصت على وضع القاهرة تحت ضغوط متعددة لم تثنها للتخلي عن حذرها.
عندما أرادت مصر توجيه رسائل توحي بالخشونة، لجأت إلى تكثيف المناورات العسكرية بالقرب من الحدود مع ليبيا، فضلا عن أخرى في عرض البحر المتوسط تستهدف تركيا أيضا، وكلها حملت إشارات مبطنة، فلدى القيادة المصرية قناعة بأن المبادرة بالفعل العسكري أو استخدام خطاب صارم يثير خلافات حادة لا لزوم له، طالما أن الأوضاع متحركة في المنطقة.
بالغت القاهرة في تضخيم هذا المحدد، ما جعلها تبالغ أيضا في تقدير عواقبه السلبية، ويتحول لكابح أمام الاتجاه نحو ممارسة ضغوط مباشرة، وهو ما تحول إلى مكسب لدولة مثل تركيا، حرصت على تنويع تهديداتها، وهي تدرك أن القاهرة غير مستعدة للتجاوب مع الاستفزاز.
أفضى الاعتماد على مبدأ الدبلوماسية في الأزمة الليبية إلى تمسّك أنقرة بتحركاتها العسكرية التي اعتبرتها أداة كفيلة بتحقيق أهدافها، مستفيدة من التردد في خطوات الدول المعنية، ومستغلة قناعة مصر، كدولة جوار مع ليبيا، بعدم التدخل في ما يجري على الأرض خوفا من السقوط في مستنقع يصعب الخروج منه، وأرسلت أنقرة إرهابيين ليخوضوا معاركها في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
لم يتمكن خطاب التنديد بهؤلاء الذين واصلوا التوغل في ليبيا من تشكيل موقف دولي داعم للقاهرة لتصفيتهم ومواجهة تركيا، على الرغم من اتساقه مع مفردات منظومة محاربة المتطرفين في العالم، وهو ما تدركه أنقرة التي أصبحت تُمارس لعبة احتضانهم تحت سمع وبصر قوى دولية كبيرة.
مع أن القاهرة تعلم جيدا حجم التعقيدات التي تحيط بملف الإرهاب، إلا أنها تمسكت بموقف الرافض للتمدد في ليبيا لاستكمال حربها ضد الإرهابيين، وتعدّ ليبيا قاعدة أساسية لغالبية من عبروا الحدود المصرية لممارسة العنف.
تجاوزت سياسة الانكماش أزمة ليبيا وباتت تتحكم في تعامل القاهرة مع جميع القضايا الحرجة التي تواجهها، وكانت أزمة سد النهضة الإثيوبي من أبرزها، فقد تبنت خطابا دبلوماسيا إلى أقصى درجة للتوصل إلى تسوية فنية مع أديس أبابا.
فِي كل محطة دخلتها وفشلت لم تفقد الأمل في الرهان على الحل رضائيا، وبعد مضي نحو ست سنوات من المفاوضات أصبح سد النهضة أمرا واقعا، وخلال بضعة أشهر سوف تشرع إثيوبيا في ملء خزانه، ما وضع القيادة المصرية في موقف بالغ الحساسية.
استغلت إثيوبيا، كما استغلت كل من إيران وتركيا، التمسك المصري بالحلول التفاوضية ونفي اللجوء إلى أي خشونة مادية أو معنوية، ولم تعر اهتماما بتحذيرات أو ضغوط من هنا أو هناك، وهي تعلم أن سقف القاهرة محدود بضوابط يصعب أن تتجاوزها.
كل ذلك يدور في الفلك الدبلوماسي، وحتى الإلحاح على دخول طرف رابع في المفاوضات لم يحرز تقدما، وأخفقت واشنطن التي جرى التعويل عليها في تحريك الأزمة للمربع الذي تريده القاهرة، وبدت أديس أبابا أشد صرامة مع الطرح المصري، بصرف النظر عن مصداقيته وقانونيته وعدالته.
أصبحت جميع الأزمات التي لها علاقة بمصر، من فلسطين إلى اليمن وليبيا وإثيوبيا، لا تستطيع القاهرة التحكم في التأثير على أي من مفاصلها بالطريقة التي تحفظ مصالحها، بسبب الإصرار على الحذر الذي مكن خصومها من مواصلة ضغوطهم.
يؤدي مد الخط لنهايته إلى الحصيلة نفسها في الصراعات التي نشبت في كل من سوريا والعراق والسودان، وتتفاوت تداعياتها السلبية في التأثير على فكرة الدور الإقليمي، وأفضى التريث إلى انتفاء القيام بدور حقيقي والاكتفاء بالمراقبة عن بعد، واختفت الجرأة التي تحتاجها كل القوى الباحثة عن رقم معتبر في معادلة التوازنات.
بالطبع مصر ليست إيران تتدخل في شؤون الدول الأخرى، أو تركيا التي تريد هيمنة تستند على أسس أيديولوجية، أو إسرائيل التوسعية، ولا حتى إثيوبيا المراوغة. وإذا أرادت القاهرة الحفاظ على مصالحها البعيدة فمن الضروري أن تتخلى عن ترددها الذي تعتبره دوائر خارجية عنصرا سلبيا يعكس ارتباكا، أكثر منه نظرة إستراتيجية عميقة لما يدور في المنطقة.
كانت النتيجة التي وصلت إليها هذه الرؤية مقبولة في السنوات الأولى التي تلت التخلص من حكم الإخوان بمصر، ومفيدة في ترتيب الكثير من الأوضاع الخارجية، لكن بعد الهدوء والأمن والاستقرار الذي تتمتع به مصر من الضروري أن يتبدل الحذر لجرأة، بعد أن تسبب الانكفاء في عدم تحقيق الأهداف المطلوبة في الأزمات الإقليمية. الأمر الذي تُوشك القاهرة أن تتبناه، لأن التمادي يغري بالمزيد من العدوان على مصالحها الحيوية.