ما يسمى بـ"الفن الراقي" ليس أولى بالانتماء إلى نطاق الجماليات

هناك خلط كبير بين الفن والجمالية، خلط تسبب في تكوين نظرات منغلقة للفن وتصنيفه بين الراقي وغير الراقي وغيرهما، وفي رؤية الجمالية وحصرها في الفن بينما هي لا تعني الأعمال الفنية فحسب، وهذا الخلط أدى بدوره إلى خلط في رؤية الفن وعلاقته بالحياة، إلى درجة دعوة البعض إلى عيش الحياة كعمل فني.
تتعلق الجماليات بخبرتك الحسية عندما تختار القميص الذي سترتديه اليوم، أو عندما تتساءل عما إذا كان ينبغي أن تضع المزيد من الفلفل في الحساء. الجماليات في كل مكان من حولنا. إنها أحد أهم جوانب حياتنا. في بعض الأحيان، يرى الفنانون، والموسيقيون، وحتى الفلاسفة أن الجماليات أمر خاص جدا بالنخبة. وهذا ناتج عن سوء فهم للموضوع، وهو من الأمور التي يهدف هذا الكتاب “علم الجمال: مقدمة قصيرة جدا” لأستاذ الفلسفة بجامعة أنتويرب بنس ناناي إلى تصحيحها.
ما يسمى ﺑ”الفن الراقي” ليس أولى بالانتماء إلى نطاق موضوع الجماليات من مسلسلات كوميديا الموقف “السيتكوم”، أو الأوشام، أو موسيقى البانك روك. ثم إن نطاق الجماليات أوسع من نطاق الفن، راقيا كان أو غير راق. إنه يتضمن الكثير مما نهتم به في الحياة.
الجماليات والفن
يقول ناناي في كتابه الذي ترجمته ياسمين العربي وصدر عن مؤسسة هنداوي “ليست وظيفة علم الجمال أن يخبرك أي الأعمال الفنية جيدة وأيها سيئ. وليست وظيفة علم الجمال أن يخبرك أي الخبرات الحسية جديرة بالاستمتاع بها؛ موسيقى شوبان في الشارع أم موسيقى شوبان في قاعة حفل الموسيقى. إذا كانت الخبرة تستحق الاستمتاع بها في نظرك، فإنها تصبح بذلك موضوعا محتملا للجماليات. يمكنك الحصول على النشوة الجمالية حيثما تجدها. فليس علم الجمال دليلا ميدانيا يخبرك بالخبرات الحسية المسموح بها، وغير المسموح بها. وهو ليس خارطة تساعدك في العثور على تلك الخبرات. علم الجمال طريقة لتحليل المعنى وراء استمتاعك بهذه الخبرات. إنه لا يتصدى لإصدار الأحكام على الإطلاق، وينبغي له ألا يكون كذلك”.

ويضيف “دعني أقص عليك مثالا معبرا. يصف فرناند ليجر (1881 – 1955)، الرسام الفرنسي، أنه شاهد هو وصديقه صاحب متجر للخياطة من نافذة العرض في أثناء تنسيقه سبع عشرة صدرية مع أزرار الأكمام وربطات العنق المناسبة لها. أمضى الخياط إحدى عشرة دقيقة في تنسيق كل صدرية. حركها إلى اليسار مسافة بضعة مليمترات، ثم خرج من المتجر، ووقف أمام المتجر ليلقي نظرة عليها. عاد بعد ذلك إلى الداخل، وحركها إلى اليمين قليلا، وما إلى ذلك. كان مستغرقا جدا في الأمر إلى درجة أنه لم يلحظ حتى أن ليجر وصديقه كانا يشاهدانه. أشعر هذا ليجر بالإهانة بعض الشيء؛ إذ جعله يفكر كيف أن قلة من الرسامين فقط يولون أعمالهم الاهتمام الجمالي مقدار ما يوليه هذا الخياط العجوز لعمله. والعدد أقل بالطبع بين رواد المتاحف”.
ويلفت إلى أن ما كان يشير إليه ليجر، وكذلك المبدأ التوجيهي لهذا الكتاب، أن الخبرة الحسية للخياط تستحق أن توصف بكونها خبرة جمالية لا تقل عن خبرة إعجاب أي من زائري المتاحف بلوحات ليجر. إن التفكير في الجماليات بهذه الطريقة الشاملة يفتح طرقا جديدة لفهم المسائل القديمة بشأن الجانب الاجتماعي لتجاربنا الجمالية وأهمية القيم الجمالية لذواتنا. ويجعل من الممكن التفكير في الفن والجماليات بطريقة عالمية خالصة لا تنطوي على الافتراض المسبق بتفوق الغرب.
يشير إلى أن القطع الفنية أنتجت في كل مكان في العالم، والموسيقى أيضا، وكذلك القصص. على الرغم من ذلك، عندما تذهب إلى أي متحف فني من المتاحف الرئيسية في العالم، فمن المحتمل أن تصادف أشياء مصنوعة في الغرب. وإذا كنت تبحث عن أشياء من أجزاء أخرى من العالم، فغالبا ما ستحتاج إلى الذهاب إلى جناح بعيد من أجنحة المتحف، بل إلى متحف آخر في بعض الأحيان. لكن الفن ليس حكرا على الغرب، وكذلك الجماليات. لطالما وضع الناس في جميع أنحاء العالم نظريات بشأن خبرتنا مع الفن. وسيكون التمسك بالمنظور الأوروبي للجماليات انحيازا، مثله في ذلك مثل الاقتصار على عرض الأعمال الفنية الأوروبية في المتاحف.
ويستدرك “لكن الجماليات الإسلامية، واليابانية، والصينية، والإندونيسية، والأفريقية، والسومرية – الآشورية، وما قبل الكولومبية، والسنسكريتية، والبالية كلها أنظمة فكرية تتمتع بتعقيد مذهل ومليئة بالمشاهدات بالغة الأهمية عن الخبرات الفنية وأشياء أخرى. ويجب ألا يتجاهلها أي كتاب عن الجماليات. الواقع أن الجماليات الغربية هي الشاذة من نواح كثيرة، بتركيزها (أم يجب أن أقول هوسها؟) على الحكم على الفن الراقي، وعلى إخراج التجربة الجمالية من سياقاتها الاجتماعية. لن أدعي أنني سأغطي جميع التقاليد الجمالية في هذا الكتاب. لكنني أيضا لن أركز حصرا على الأفكار الغربية التي تفشل فشلا صارخا في أن يكون لها صداها لدى بقية العالم، بغض النظر عن مكانة الرجال البيض الراحلين الذين قدموها”.
ويقول ناناي إن “الجماليات تمثل لحظات خاصة. ولكن هل هذه اللحظات جزر منعزلة في روتيننا اليومي الممل؟ لا أعتقد ذلك. فيمكنك على سبيل المثال المرور بما يصل إلى ثلاث خبرات جمالية قبل تناول الإفطار إذا كنت محظوظا. على الرغم من ذلك، فقد يؤثر الفن وكذلك تجاربنا مع جميع الأشياء الجمالية في حياتنا على نحو أكثر اعتيادية. فقد يتأثر ذوقك في اختيار الملابس بإحدى الشخصيات في فيلمك المفضل (ربما دون أن تدري)، وقد تستخدم عبارات تتعلمها من مسلسلات كوميديا الموقف. وتشير المصورة الطليعية برنيس أبوت (1898 ـ 1991) إلى أن النظر إلى الصور الفوتوغرافية يساعد الناس على الرؤية. فالجماليات والحياة متضافرتان على جميع أنواع المستويات”.
الحياة عمل فني
يتساءل ناناي في كتابه هل ننظر إلى الحياة باعتبارها عملا فنيا؟ ويلفت إلى إن أهمية الجماليات في حياتنا لا تعني أننا بحاجة إلى اللجوء إلى شعارات المساعدة الذاتية الرخيصة. ومن مثل هذه الشعارات، فكرة مؤثرة تحظى بشعبية مذهلة تقول إننا يجب أن نحول حياتنا إلى عمل فني، أو أن نتعامل معها على أنها عمل فني.
ويضيف “أنا أريد أن أوضح مدى اختلاف ما أقوله عن هذه الفكرة. لقد أيد جميع أعلام الحداثة الغربية شكلا من أشكال هذه الاستعارة، بداية من يوهان فولفجانج فون جوته (1749 ـ 1832)، وفريدريك نيتشه (1844 ـ 1900)، إلى مارسيل دوشامب (1887 ـ 1968). وقد استمتع روبرت موسيل (1880 ـ 1942)، الروائي النمساوي، مؤلف رواية ‘رجل عديم الصفات’ بالسخرية من هذه الأشكال من نصائح المساعدة الذاتية، ونرى هذا في عبارته: أي نوع من الحياة يجب على المرء أن يظل يملؤها بثقوب تسمى ﺑ’الإجازات’؟ هل كنت ستحفر ثقوبا في إحدى اللوحات لأنها تتطلب الكثير منا لتقدير جمالها؟”.

ويبيّن أنه إذا أمعنا النظر، يمكننا أن نرى كيف كان من الممكن أن يكون لفكرة النظر إلى الحياة باعتبارها عملا فنيا بعض الوجاهة في القرن التاسع عشر، عندما كانت للأعمال الفنية بنية كلية متماسكة، متابعا “يمكنني أن أرى أن البعض يسعون جاهدين إلى تحويل حياتهم إلى رواية لجين أوستن (1775 ـ 1817) لها بداية، ووسط، ونهاية، بهذا الترتيب، ولها إطار متماسك غالبا ما يكون في حالة حركة دائمة، يربط بين هذه المراحل. غير أن تحويل حياتك إلى رواية لمارجريت دوراس (1914 ـ 1996)، حيث لا يحدث شيء حرفيا، أو إلى رواية لروبرتو بولانو (1953 ـ 2003)، حيث لا تحدث سوى الأشياء المروعة، سيكون مغامرة مريبة للغاية”.
ويوضح ناناي أن المشكلة الأعم هي أن الفن أصبح مشابها للحياة إلى حد بعيد. لقد كان الشعار العام الذي اتخذته الحركات الفنية في نصف القرن الماضي أو نحو ذلك (على الأقل منذ ظهور حركة الفلوكسس وفن البوب) أن الفن ينبغي ألا يفصل عن الحياة. لذلك وإذا أصبح الفن مشابها للحياة، فتحويل حياتك إلى عمل فني سيصبح بلا معنى، أو سيكون مفارقة تاريخية لا تتلاءم مع المفاهيم الحالية عن الفن والواقع. لم يقتصر على ذلك، بل ظهر أيضا نوع فرعي من الفن المرئي يقطع فيه الفنان ثقوبا فعلية في صوره، مما يجعل مقولة موسيل أكثر طرافة.
ربما لا تتمثل الفكرة الرئيسية في أن حياتنا يجب أن تتحول إلى عمل فني، بل أن يكون موقفنا تجاه الحياة مشابها لموقفنا تجاه الأعمال الفنية. هذا النهج لا يخلو من أبطاله المتبنين له أيضا. يكتب ألبير كامو (1913 ـ 1960) في روايته التي لا تحظى بشهرة كبيرة “موت سعيد” (1938) “على غرار جميع الأعمال الفنية، تتطلب الحياة أيضا أن نفكر فيها”. مقولة جميلة من سطر واحد، لكن الإشارة إلى الأعمال الفنية هي في الواقع ذر للرماد في العيون. ثمة العديد من الأشياء التي تتطلب أن نفكر فيها، من كتب الفلسفة، وأخبار البيت الأبيض، واللغز وراء سقوط حذاء سندريلا عن قدمها رغم أن مقاسه يناسبها تماما.
ويرى أن الأعمال الفنية ليست مفيدة للغاية في هذا الصدد إذن لكي نشبه الحياة بها. وفي حين أن بعض الأعمال الفنية تتطلب بالتأكيد التفكير فيها، فما نوع التفكير الصريح الذي ينبغي أن نستجيب له ﻟ”كونشيرتو برادنبرج” (1721) أو لوحة لموندريان؟ لا تضيف ملاحظة كامو الطريفة أي شيء جديد حقا على الشعار القديم “الحياة من دون تجربة لا تستحق أن تعاش”. يمكن للكثير من الأشياء أن توصف بكونها فنا. وهناك الكثير من الطرق للتفاعل مع الأعمال الفنية، وليست إحداها أفضل بطبيعتها من الطرق الأخرى. لذا فإن حثنا على تحويل حياتنا إلى عمل فني، أو على التفاعل مع الحياة كما لو كانت عملا فنيا، ليس بالأمر المفيد أو ذي المعنى الخاص.
ويضيف ناناي أن ذوقنا في الموسيقى والأفلام والفن يعد مهما للغاية بالنسبة إلينا. وليس ذلك فحسب، فكذلك ذوقنا فيما نأكله، ونوع القهوة التي نشربها، وما نرتديه من ملابس. إننا نتعامل مع تفضيلاتنا الجمالية باعتبارها جزءا كبيرا من هويتنا. لكن هذه التفضيلات تتغير بسرعة مفاجئة ومن دون أن نلحظها في الكثير من الأحيان. وفقا لبعض النتائج الأخيرة، فإن التفضيلات الجمالية أكثر استقرارا لدى الأشخاص في منتصف العمر وهي أكثر مرونة بكثير لدى المجموعات العمرية الأصغر والأكبر أيضا، وإن كان مثيرا للدهشة بعض الشيء. على الرغم من ذلك، فحتى في أكثر الفئات العمرية استقرارا، تخضع التفضيلات الجمالية للأشخاص لتغيير رئيسي واحد على الأقل بمعدل كل أسبوعين في نطاق جمالي ما يهتمون كثيرا به. إننا نحب أن نعتقد بأننا لا نتغير كثيرا. وإذا تغيرنا، فنحن نفضل الاعتقاد بأننا نملك زمام هذا التغيير. لكننا مخطئون خطأ كبيرا في هذا. فنحن لا نملك سوى القليل جدا من التحكم في كيفية تغييرنا ومقداره.
ويضرب مثلا من ظاهرة نفسية معروفة على نطاق واسع، “تأثير التعرض المحض”. يقول “كلما تعرضت لشيء ما، زاد ميلك للإعجاب به. إن التعرض المحض للشيء يغير تفضيلاتك. وهذا يحدث حتى إن لم تكن واعيا بما تتعرض له. إن تأثير التعرض المحض يؤثر في إعجابك بالأشخاص، والأغاني، والألوان، وحتى اللوحات. في إحدى التجارب، وضع أستاذ في علم النفس بجامعة كورنيل بعض الصور التي تبدو عشوائية وسط شرائح لمحاضرة تمهيدية عن علم الرؤية. وبهذا، ففي منتصف محاضرة عن كيفية عمل الرؤية، كنت ترى فجأة لوحة لرينوار أو موريسو، دون تقديم تفسير. كانت موضوعة على سبيل الزينة فحسب. على الرغم من أن هذه اللوحات قد بدت وكأنها تظهر عشوائيا، فقد كانت جزءا من تجربة. عرض بعضها أكثر مما عرض غيرها، وفي نهاية الفصل الدراسي طلب من الطلاب تقييم الصور المعروضة. ودائما ما كانت اللوحات التي عرضت عدة مرات تحظى بتقييم أعلى من تلك التي عرضت مرة واحدة. وقلة قليلة فقط من هؤلاء الطلاب هم من قالوا إنهم يتذكرون رؤية أي من هذه الصور من قبل. يحدث تأثير التعرض المحض حتى وإن لم تكن واعيا لهذا التعرض. من مجموعة النتائج المهمة عن تأثير التعرض المحض أنه حتى التعرض اللاواعي يزيد من احتمالية التقييم الإيجابي، أي إذا عرض الحافز مثلا فترة قصيرة جدا (أقل من 200 ملي ثانية) أو إذا كان الحافز مستترا (أي مخفيا ببراعة). من الصعب ألا تنزعج قليلا من هذه النتائج. إننا نملك بعض السيطرة على أنواع الموسيقى والفنون التي نتعرض لها، ولكنها ليست سيطرة كاملة بالتأكيد. فمن الصعب للغاية أن نوجد في أي مكان عام من أي نوع من دون موسيقى. المقاهي، ومراكز التسوق، والمصاعد، كلها تشغل الموسيقى. تترك الموسيقى التي تتعرض لها في هذه الأماكن بصماتها على تفضيلاتك، ونادرا ما يسعدنا هذا الأمر.

ويتابع “إن تفضيلاتنا الجمالية في الموسيقى، والأفلام، والطعام، والملابس، والفن مهمة للغاية بالنسبة إلينا، ويمكن أن تتغير على نحو لا نملك السيطرة عليه، وهي تتغير بالفعل. إذا كنت من محبي موسيقى الجاز الحر وتعتبر نفسك شخصا مهتما بالجاز الحر، فإن سماعك موسيقى جاستن بيبر في السوبر ماركت سيجعل إعجابك بالأسلوب الموسيقي الخاص بأغاني جاستن بيبر يزيد بعض الشيء. ومن المحتمل جدا ألا يكون لديك أي فكرة عن هذا. فالأمر يحدث بعيدا عن إدراكك. إذا كان من الممكن اختطاف تفضيلاتنا دون أن ننتبه، فسيبدو أن جزءا كبيرا من ذواتنا نتاج عشوائي للتعرض المحض. ونحن عاجزون عن مواجهة هذا. عندما كنت صغيرا وأحب لفت الأنظار، كنت أحرص دائما على السير في غرف فن البوب في المتاحف وعيناي مغلقتان. لكن النجاح في ذلك صعب وخطير أيضا إلى حد ما. وعندما يتعلق الأمر بالموسيقى، يصبح أكثر صعوبة. إن ذوقنا يتغير، وليس هناك الكثير مما يمكننا فعله حيال ذلك. إن حقيقة أنه من الصعب ألا نجد هذه النتائج مقلقة، توضح مدى أهمية النطاق الجمالي لدى الذات. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكننا تجاهل هذا الرابط القوي بين الجماليات والذات”.