ما يبدأ بالمال الصحافي السياسي ينتهي بانتخاب نقيب حكومي

تجربة الانتخابات تبدو أصدق تمثيل لنقابة بلغت عامها الثمانين وتعاني الشيخوخة وتصلّب الشرايين.
الاثنين 2021/04/05
الأمان الاقتصادي ما يهم الصحافيين المصريين

شهدت انتخابات الصحافيين المصريين الجمعة 2 أبريل 2021، نهاية تنافس شرس بين ممثلي الحكومة وأقلية مؤمنة باستقلال العمل المهني والنقابي. وتبدو تجربة الانتخابات أصدق تمثيل لنقابة بلغت عامها الثمانين وتعاني الشيخوخة وتصلّب الشرايين؛ فيعيد أعضاؤها إنتاج الوجوه القديمة، ويأبون تجديد دماء نقابتهم، ولعلهم يخشون عواقب هذا التجديد. وذهبت سدى آثار معركة كلامية لم يتوقف فيها المرشح عند حدود عرض برنامجه الانتخابي، وإنما استهدف النيل من الخصم، وتحميله مسؤولية مصادرة النقابة واختطافها وارتهانها إلى الحكومة، وسلب الحقوق المهنية في المعرفة والنشر والأمان من الاعتقال، ووجود صحافيين رهن حبس احتياطي مفتوح، فلا يتم الإفراج عنهم، ولا توجّه إليهم تهمة؛ ويحالون إلى المحكمة.

يفترض أن تكون قضية الحرية عنوانا لهذه المرحلة. حين تخلّى الصحافيون عن الحرية، نشدانا للأمان الاقتصادي، فقدوا الاثنين معا. وأثبتت السنوات التالية لثورة 25 يناير 2011 صحة مقولة ونستون تشرشل “كان لديكم خيار بين الحرب والمهانة: اخترتم المهانة، وسوف تدرككم الحرب”. المهانة أن يكون ما يسمى “بدل التكنولوجيا” قضية القضايا، وفي الظروف الطبيعية والآدمية يمكن الاستغناء عنه، وتمنع مؤسسات صحافية دولية في مصر صحافييها أن يأخذوا هذا “البدل”، وتراه رشوة حكومية تحول دون موضوعية الأداء المهني. وقبل خمسة أعوام صرح عبدالفتاح السيسي عام 2016، بأن مصر “شبه دولة”. وفي شبه الدولة لا شيء حقيقيا: شبه برلمان، شبه دستور، شبه نقابة.

في شبه الدولة تكون المؤسسات الصحافية، وهي مستقلة نظريا بنص دستوري، شبه مؤسسات. وتكون الانتخابات النقابية شبه انتخابات؛ ويتنازل أعضاء الجمعية العمومية عن فرصتهم الوحيدة والنادرة في الانتخاب الحر، ويكونون أقل من تحمّل مسؤولية هذه الحرية، بحجة التعرّض لضائقة اقتصادية تجبرهم على الإذعان النفسي لشروط المال السياسي الصحافي الذي حسم الانتخابات من الجولة الأولى. وفي هذه الأواني المستطرقة من الأشباه: أشخاصا ومؤسسات وأداء نقابيا وانتخابيا، أعيد انتخاب نقيب ينتمي إلى السلطة التنفيذية بدرجة نائب وزير، وبحكم منصبه الحكومي يستطيع التدلل على الحكومة، وينتزع منها وعدا بزيادة “البدل” المادي الضروري في ظروف قاهرة. هكذا فاز ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات.

فوز يكرس الاستئساد الحكومي على المهنة، ويزيد طمع السلطة في الهيمنة على بقاياها. وبعد فقدان الأمل المرحلي في استقلال المهنة عن السلطة، اكتفى الصحافيون بخدمات إنسانية ينالونها بكرامة منقوصة، فمجلس الإدارة والنقيب رشوان صادر سلّم النقابة، وشغله بعوارض وقوائم معدنية تمنع اجتماع بضعة أفراد، وصحّر المبنى بإغلاق المطعم، وسحب المقاعد من الأدوار كلها، فيشعر الصحافي بالغربة في نقابته المخطوفة. وضاعت فرصة التغيير، وأكدت الانتخابات نظرية العبودية المختارة، وسخرت من حملات كرّسها كارم يحيى المنافس على مقعد النقيب؛ للتوعية بأهمية استقلال النقابة والتذكير بقرار الجمعية العمومية رقم 13 بتاريخ 15 مارس 2019 الذي يحظر الجمع بين منصب النقيب وأي منصب حكومي.

لم يحدث أن جمع نقيب للصحافيين، في آن، بين منصبه ومنصب تنفيذي في الدولة. ومنذ عشرين عاما كنتُ أطلب من أي مرشّح شيئا واحدا يُحسب له، أن يدقّق في اختيار الأعضاء الجدد إذا كان مستحيلا تنقية الجداول الحالية من الدخلاء على مهنة اختلط فيها الصحافيون بمن لا علاقة لهم بالصحافة، ولكنهم يحملون شرف الانتساب إليها؛ لأن النقابة تحولت إلى نقابة لمن لديهم عقود عمل مع المؤسسات الصحافية. كنت أؤكد ما يعرفه المرشحون من فساد أتاح لأرباب المؤسسات منح عقود عمل صحافية لموظفي أمن وكل سكرتيرة حسنة المظهر. والنقابة تلتزم بضم من يمتلك عقد عمل في مؤسسة، ولو كان جاهلا بالمهنة.

يحصد الصحافيون المصريون ثمار نحو أربعين عاما من نوعيْ فساد مركّب. أولهما مالي انتهج بيع عقود العمل لقاء مبالغ مالية ينالها رئيس الحزب الذي لم يمتهن الصحافة، في ما عُرف بظاهرة “بيع الكارنيه”، ثم تطور الأمر إلى صيغة لعقد عمل صفريّ، لا يشتريه العضو، ولا يلزم المؤسسة براتب شهري، ولكنه يجعل العضو يتمتع بالحصول على “البدل” الحكومي من النقابة. أما النوع الثاني من الفساد فهو استئناس أجيال من “الصحافيين”، وشراء ولائهم النفسي والانتخابي، فهم غير صحافيين، ويغريهم برستيج صحافي يحقق لهم نقلة طبقية، من وظائف في الأمن أو الأرشيف أو السكرتارية. حظوظ هؤلاء من الوعي محدودة، والانتخابات تعني زيادة “البدل”.

جمعية عمومية بهذه المكونات البشرية والمهنية والنفسية لن تغامر باختيار نقيب وأعضاء مجلس إدارة يؤمنون بحق تداول المعلومات، ويتمسكون بنص المادة 68 من الدستور “المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية”. ليس الوقت مناسبا للإلحاح على قضية الحرية، وبتنازل الصحافي عن الحرية سيفقد الأمان الاقتصادي، إلا ما يجعله متوتّرا على الحافة، يخشى الهبوط ولا يضمن النجاة، فلا يموت ولا يحيا. وبهذا المعنى لا تكون الانتخابات إلا شبه انتخابات كارهة للتغيير، ولا ينجح في مجلس الإدارة خالد البلشي أبرز المعبرين عن قيم ثورة 25 يناير.

18