ما هو المتواري الذي نبحث عنه في الأعمال الفنية

مصطفى عيسى: الأبعاد المتوارية حررت حذاء فان غوخ من سطحيته.
السبت 2021/06/26
أعمال فنية تخفي أكثر مما تظهر

في كل الأعمال الفنية نبحث عن ذلك الشيء الخفي والمتواري، فقد نرى أنه ساحر أو غامض أو فيه من الجاذبية التي تجعلنا نقر بجدارة هذا العمل الفني من غيره. لكن هذا المتواري الذي يتلون وفق ثقافة كل فرد وفنان وخصوصيتهما على حد السواء، هو مثار جدل حول ماهيته وخصائصه، وهو ما يبينه الباحث مصطفى عيسى في كتابه “فتنة المتواري.. بحث في جذور الفعل الفني”.

لماذا يبحث الفنان التشكيلي ولماذا يفتن بالمتواري خلف الأشياء؟ هل يبحث عن كنه الشيء؟ أم يبحث عن روح خاصة به تتألق عبره روح الجماعة؟ أم يبحث عن قوى مثالية ومطلقة قابلة للتحديد أحيانا، وخارجة عن النطاق في أخرى؟ ولماذا كان هذا التوتر الزمني حاملا لجينات البحث المتوهج باتجاه شيء هلامي وغامض؟ وهل تكمن إثارته في غموضه أم أن العكس هو الصحيح؟ هذه التساؤلات وهذه الرؤية تشكل عمق الطرح التحليلي والتطبيقي الذي يحمله كتاب “فتنة المتواري.. بحث في جذور الفعل الفني” للفنان التشكيلي والباحث في جماليات الفن المعاصر مصطفى عيسى. وقدم له محمد بن حمودة الباحث في جماليات الفنون التشكيلية.

في الكتاب الصادر عن مؤسسة بتانة، يبدو الانفصال بين أبوابه ملموسا من حيث اختزاله للنوعي في الفنون البصرية، فثمة حقائق ستبدو ظاهريا وإلى حد ما غير مترابطة، إلا أن اجتماعها يتم عبر بوابة المتواري المحفز على الفعل الفني، لذلك فمن تشبيه المتواري إلى قناع الوجه، مرورا بذاكرة المكان وتأويل اللون، ووقوفا أمام لغة الصمت والجماد، وانتهاء بأسئلة ما بعد الحداثة، تمر الأجزاء منفردة، وكأنها تحيا عوالهما الخاصة، المرتبكة في ذاتها.

وبينما نوشك على الاقتناع بكينونة هذا الخاص وانفراده بعالمه، لا نلبث أن تكتشف أن هنالك ما هو قادر على جمع كل هذا المتنافر في بؤرة واحدة، مؤسسة على فتنة المجهول المتواري خلف الفعل الفني، أو كخطوط تتقاطع وتتحرك باتجاه نقطة وحيدة تشكل المركز والأساس في هذا الفعل.

عمق الطرح التحليلي والتطبيقي
عمق الطرح التحليلي والتطبيقي

المتواري والأسطورة

يشير عيسى إلى أن ما يطرحه متن كتابه لا ينفصل أو يبتعد كثيرا عن طرح كاندينسكي سوى في كون اللامرئي قد يشي باستحالة الإمساك به، ويظل بعيدا ماديا ومعنويا، من منطق النفي الكامل لوجوده، ويصبح القول به بمثابة طرح غير مجاز، رغم حتمية وجود الوجه الآخر للمرئي، في حين يفترض المتواري تعيين هذا الوجود أو إداركه على غير اكتمال في كل لحظة، ومن ثم فهو يطرح الوعي به ككائن هناك مختبئ مخفي ومظلل بغمام سوف يكشف عنه في لحظة تالية، إننا دائما في لحظة انتظار، أي إن ثمة يقينا بوجوده وبالوصول إليه. إنه أقرب إلى مفهوم المحتجب في فلسفة هيدغر في الفن.

ويرى عيسى أن لكل موجود وجهه الآخر المتواري، فلا فرق بين بشر أو جماد، فقط ما يحرك هذا المتواري في الأشياء تجاه فعاليته هو جزئنا نحن، بصفتنا الطرف الذي يمثل الإدارك والفعل ورد الفعل، وحيث يكون اكتساب الوجه المتواري في الأشياء لشرعيتها وبزوغ فعالياتها منبثقا من تحركنا نحن أو تجاهلها في ظل أي مؤثر كان، وفي أي ظروف كانت، حتى أننا لا نبرح نتفاعل مع الأشياء في لحظات متوترة وجليلة لا تتوانى عن الكشف عن جمالها إن راودتنا في لحظة صدق أو إن استعضنا عن البصر بالبصيرة.

ويتساءل هل يفقد الرمز ماهيته ودلالته في الفعل الفني؟ وفي ذات السياق يتكرر السؤال: هل يفقد الفنان رمزه في وعيه بالفعل الفني؟ ويضيف “لا شك في أننا جميعا نبحث عن رمزنا الخاص والحميم جدا، رغم ما يعترينا من تشابهات لا يمكن التخلص منها، استنادا إلى نموذجنا البدائي في أغوار النفس والتاريخ، مثله مثل الجين الحامل لعناصر الوراثة، ثم استنادا إلى كون الرمز يمثل كسرة الخبز المفتقدة والتي يبحث عنها الفرد منا، كل على حدة، وعليه فنحن نؤول نظرتنا إلى الطبيعة والأشياء تأويلات شتى، ولا ندرك تفاوتها في اللحظة، أي في الفعل ذاته، وقياسا على ذلك سوف تنتفي أية احتمالية في فقد هذا الغائب، يتساوى في هذا الموقف الإنسان على إطلاقه، ورغم ذلك سوف يتضح أن اختلافا أكيدا قد يميز بين الفنان ومن سواه من البشر لكونه حالة استثنائية في الفعل ورد الفعل.

ويتابع عيسى “إن هذا الرمز مرتد في أصله إلى المتواري في البنية النفسية التي تستقي حساسيتها من تراكمات الحياة، مما يؤهله للولوج إلى مدارات التجربة الفنية للفنان، بيسر وسهولة لا تتوفر للعامة، عندئذ يصبح الحديث عن الوعي بالفعل الفني متناصا مع إطلالة الرمز الذي يتلاقى في الرؤية الفنية أيا كانت مستوياتها وأيا كانت نتائجها. إن تشبيه المتواري يرتدي حلة موشاة بزخرف الحياة ونقائصها ومتناقضاتها، ولهذا فهو يصلنا كوهم الحلم البعيد، إذ يستطاع الإمساك به، على حين يقر الواقع بأنه بعيد المنال وغير متوفر سوى في لحظات أيضا استثنائية. إنه يظل ‘شبها بـ’ وليس صورة طبق الأصل، إنه خيال الجسد الملموس والذي يتحرك مع حركته، ولا يمكنه الانفصال إلا إذا ضاع النور من حياتنا”.

ويؤكد أنه تاريخيا يمتد المتواري من الأسطورة إلى الأسطورة الحديثة، من زمن إيزيس وعشتار وفينوس إلى زمن الروبوت والكمبيوتر ومركبات الفضاء التي تلتمس فك شفرات الأبعاد اللامتناهية في الكون العظيم، حيث يتجلى المتواري في صور تتنوع وتتشكل وفق قانون التجاوز للمألوف بغية استشراف واستكناه الأبعاد، والتعرف على ما اختبأ خلف الظاهر والمحسوس. أي إنه قديم قدم المسافة بين الإنسان الأول والإنسان المعاصر، وبالنتيجة بتنا نبصر في العلم والمعرفة قنوات للتقرب والتماس أبعاد هذا الغائب، وإن ظلت الطبيعة في كل الحالات حاضرة ككيان لا يخضع ولا يستجيب للابتهال في كل وقت، وكأنما تقدم المزيد من غرائبها وكنوزها المثيرة التي تتطلب الاحتواء كي يستكين المرء ويهدأ.

بين البصر والبصيرة

Thumbnail

يشير عيسى إلى أنه في المتواري وجود منفي كرها وليس اختيارا، يأتي غالبا على العكس من المرئي الملموس، ومن ثم كان تصالح كل من المرئي واللامرئي في جسد العمل الفني لا يحمل نوعا من المفاجأة بالنسبة إلى الغالبية، خاصة ممن يعتقدون في المحسوس والمدرك، وينبذون بالتبعية كل مجالات الخيال والتخيل، رغم إدراك الجميع بوجود الثاني وبآلية عمله. وبينما يظل هذا المتواري أمامنا يقتات من حياتنا ولا يفصح عن نفسه، إلا أننا ندركه تبعا لخصوصية ما بداخلنا، ونتلقفه في إجابات تبدو أحيانا منقوصة وبحاجة إلى الاكتمال.

ويرى أن المتواري مثل الطبيعة التي تتفتح ورودها وأزاهيرها في زمن محدد، وهو في مثل خضرة الأشجار والنباتات التي تنمو مخلفة وراءها زمنا يتآكل حتى الانتهاء، وفي الفن هو قبس من الإدراك والمعرفة، فلا يتوهج سوى في وجدان من أعطاه نفسه في لحظة صدق، ليصنع جسرا بين بصره وبصيرته، بين ذاته والآخرين، لعله يقول كلمته بقناعة الحكماء، وما يفتأ يبحث من جديد عن معنى ما زال مجهولا.

ويضيف الباحث “تتطوح الذات يمينا ويسارا، تقع في أسر الآخر بعلاماته وألغازه، بطموحاته وقسوته، بنرجسيته وطاقته الغاشمة على اجتياز حواجز الأمن والطمأنينة. لذلك لا ينفك الفن يقع في براثن كل ما يمت بصلة حميمية مع الاجتماعي والاقتصادي ومع السياسي والديني، مع الموروث والمتغير، مع الساكن والمتحرر”.

ويتساءل عيسى هل يمكن تخيل حذاء الفلاحة المهترئ البالي منفصلا عن واقعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتزامن مع تفاصيل حياة فان غوخ؟ ويوضح “ثمة مبحث للمتواري إن لم يكن قد وقع عليه فان غوخ في حينه، فإنه حتما يتطلب إطالة النظر والتأمل في مجمل علاقات تجمع الخاص بالعام، حتى يتسنى للحذاء أن يفلت من صورته المجردة كحذاء متشابه مع غيره، وأن تظل اللوحة التي رسمها فان غوخ دلالة على عصر تختلط فيه نوازع السياسي والثقافي والديني والاقتصادي والاجتماعي بما يمور بوجدان الفنان”.

المتواري يمتد من الأسطورة إلى الأسطورة الحديثة، من زمن إيزيس وعشتار وفينوس إلى زمن الروبوت والكمبيوتر

ويضيف “بالمثل لا يمكن التغافل عن مطلب أحمد نوار ومنى حاطوم وجون كوبلانز وجوديث باري في تأسيس إطار تحتمي به النفس والبدن من الاغتيال والتشظي. ولعلنا بالمثل أيضا نستعيد لوسيان فرويد، بيكاسو، مودلياني، عادل السيوي، مصطفى عبدالمعطي، عادل صبري، صبري منصور، محمد عبلة، علي عاشور، عبدالوهاب عبدالمحسن، أحمد عبدالكريم، جرجس لطفي، أمل نصر، محمد أبوالنجا، فريد بلكاهية، إبراهيم الحيسن، محمد القاسمي ومصطفى عبدالوهاب، إلى آخر الأسماء التي اجتزأناها من قائمة تمثل فيها أجيال وطاقات إبداعية مميزة، متنوعة ومختلفة، متوهجة بالبحث عن الجديد”.

ويتابع عيسى “هؤلاء الفنانون جميعا قد وضعوا ألوانهم وأشكالهم وأساليبهم في إطارات لم تبتعد عن التماس تلك الأبعاد المتوارية في حضن الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، طالما كان إنسانهم حاضرا في الذهن وحاضرا في اللاوعي. ما يحدث في الخارج، إذن يظل موصولا بطاقة البدن والروح التي يؤلبها – في منفاها الاضطراري سواء بسواء – هذا الحافز الإبداعي الخاص”.

ويركز عيسي في كتابه أيضا على عنصر مثير يمتلكه البشر جميعا، ويتلون وفق ثقافاتهم ومنطق عصرهم. لذلك لا نفتأ نتحدث عن الحرية باعتبارها حقا في الاختلاف مكفولا له الوجود دائما بيننا.

لقد أعطى هيرونيموش بوش مثالا في عصره، ومن بعد قرون قدم دي شامب نموذجا مثاليا آخر في الانفلات وحق الاختلاف. ولا يزال هذا الحق يغري آخرين بالتجاوز، مما يجعلنا ننظر إليه عبر البحث عن المتواري الساكن فيه، ونتساءل: هل في واقع الأمر مرهون ببديهيات أخرى قابلة للتشكل تبعا لإيقاع عصرها من وقت إلى آخر؟ ما يمكن القطع به أن حرية الفرد ملازمة له، في اختياراته كافة، ومن ثم أضحى الاختلاف أقرب إلى التابو الذي لا يمس، بقدر اعتراف الآخرين به. وأخيرا يطل المتواري والمجهول والملغز والخبيء من شرفتنا الداخلية لنقبض على قبس منه، دون امتلاكه أو الاستحواذ عليه، ويظل أحد الحوافز في الفعل الفني أو الجذر الأساسي فيه.

13