ما عدا أيسلندا وكوريا لا وجود لدول منسجمة ثقافيا

باتريك سافيدان: التعدد الثقافي في سياق العولمة مجبر على مراجعة طرق انتشاره.
الأحد 2022/07/24
هل منع الحجاب سيسمح بتفتح المرأة المسلمة

التعدد الثقافي واقع في جميع الدول، لكن يبقى التعامل معه سواء من قبل الدولة نفسها أو داخل المجتمع هو الذي يثير الاختلاف حوله، إذ غالبا ما يشار إلى التنوع والتعدد الثقافي بوصفه ميزة، بينما في الحقيقة يتعامل معه بشيء من التمييز والإضاءة على الغريب بهدف تذويبه في ثقافة منسجمة، وهو ما لا يحصل.

غالبا ما كانت الإشكالية الكبرى في مسألة التعددية الثقافية تأتي من ناحية علاقتها بالدولة، من خلال تقييم حدود تدخلات الدولة داخل الأقلية الإثنية أو القومية، أو من خلال مقدار الحقوق التي تُعطى للأقلية كجماعة لا على أسس فردية، وعلاقة الغالبية بالأقليات من خلال تمثل كل منها في الدولة، ومقدار حضور الخصائص الثقافية للمجموعات الثقافية في الهوية الوطنية والجهاز الإداري الحكومي.

يلخص باتريك سافيدان هذا النقاش في كتابه “الدولة والتعدد الثقافي” الذي طرح من خلاله هذا الجدل الممتد من بدايات تشكل الدولة القومية الحديثة، وحتى التطورات النظرية التي يطرحها منظرون أمثال راولز وكميلكا.

التنوع والمساواة

إن القضية المركزية للكتاب الذي ترجمه المصطفى حسوني وصدر عن دار توبقال تتلخص في سؤال: كيف ينبغي لمجتمعاتنا الديمقراطية أن تدير تنوعها العرقي والثقافي؟ حيث أصبحت الحاجة ملحة إلى إعادة تقييم الصلة بين الحرية الفردية وثقافة الانتماء. لذا يسأل أيضا كيف تؤخذ الاختلافات في الاعتبار دون التسبب في عدم المساواة؟

ومن خلال أربعة فصول تكملها ببليوغرافيا، وبعد توضيح مفاهيمي ومصطلحي في المقدمة لـ”الدولة القومية، التعددية الثقافية”، وغيرهما من المصطلحات ذات الصلة، يفحص سافيدان العلاقة بين الديمقراطية والهوية، عبر وجهات النظر التاريخية والفلسفية، ثم يلقي الضوء على المناقشات المعاصرة حول الاعتراف بالهويات الجماعية والفردية ويتتبع تطور هذا الاعتراف في عملية دمقرطة المجتمعات، ثم يعرض أطروحة دافع عنها الفيلسوف الكندي تشارلز تيلور، والتي تنص على أن تعزيز المساواة بين الأفراد يجب أن يتم بفضل سياسة الاختلاف وليس من خلال تحييد الأخيرة.

الدولة من أجل تحقيق الأهداف التي تأسست من أجلها لا يمكنها أن تمتنع عن التصرف كفاعل ثقافي

 وإذا كان مبدأ حياد الدولة يبدو مستحيلا بالنسبة إلى سافيدان، فيجب على الدولة، حسب رأيه، أن تسمح بظهور مجتمع لا توجد فيه ثقافة تمنع الآخرين من التطور مع احترام الحريات الفردية. وانطلاقا من هذه الرؤية كان تناوله في إطار المسار الفلسفي، حيث يضع في الاعتبار النظريات الرئيسية المتعلقة بالتعددية الثقافية ويتجنب فخ فهرسة الأفكار. فمن خلال تأمل إحصائية بسيطة “نحصي اليوم 190 دولة – أمة ذات سيادة بمقابل 5000 مجموعة إثنية تتكلم كل واحدة لغتها الخاصة تنتمي إلى 600 مجموعة لغوية”. هنا يظهر التعدد وكأنه أمر يفوق القدر، إذ من المستحيل خلق 5000 كيان مستقل على هيئة دول نقية عرقيا! ويبدو أن النقاء العرقي بهذا الشكل لم يخلق أبدا، ويرى سافيدان أن العالم لا يحوي إلا دولتين منسجمتين ثقافيا هما أيسلندا وكوريا.

 يقول سافيدان إن التنوع الإثن ـ ثقافي يفسر تاريخيا على أنه معطى أساس في المجتمعات البشرية. ويضيف “لا يمكن أن نقول في هذا الاتجاه على أنه خصوصية للمجتمعات الحديثة، وما يعتبر طارئا، أننا لا نصادف سياسة الاعتراف، اعتراف الدولة بهذا التنوع الثقافي الذي يطبع سكانها. لا نتبنى الفكرة على أنها من المسلمات، فكل محاولة في هذا الاتجاه تنتج عنها ردود فعل قوية، ولا يقود هذا التحليل إلى الاندهاش، ذلك أن التعدد الثقافي قد يفضي إلى إقامة نمط اندماج سياسي واجتماعي يختلف في جوانب متعددة عن النموذج الذي بنيت على أساسه الأمم”.

 يؤكد سافيدان أن التعدد الثقافي ينسجم في إطار إعادة تقويم الاختلافات الثقافية، مع الحاجة إلى إعادة وصف الربط بين الحرية الفردية والانتماء الثقافي، وذلك في إطار عالم معولم، حيث تتدخل كذلك صيرورات الإدماج الجهوية. ويمنح لكل فرد في هذا السياق، إمكان الاختيارات الحاسمة التي تحمل معنى في حياته بالنظر إلى أنها ترد في سياق ثقافي معين يرتبط به ارتباطا وثيقا، وهذا ما يقتضيه قانون هذا النوع من التحول. وقد علّمنا العصر الحديث أن نستعير سمات لا تمثل هويتنا بالضرورة ونتقمص، بالمعنى الثقافي، سمات الآخر. وكان هذا التصرف ضروريا لجعل الآخر نظيرا، وذلك عبر الاستيعاب لخلق هذه المساواة، ولا يعدو أن يكون هذا التصرف، المساواة عبر الاستيعاب، سوى مقدمة أو مرحلة نحو ما يمكن أن يزكي شرعية هذه المساواة.

 ويتابع “تكمن تحديات هذا التصرف في تحديد المقتضيات والممارسات المؤسسة التي تسمح بإبراز الاختلاف الثقافي لهذا النظير. وذلك من جهة، بهدف إقامة أقصى ما تقتضيه هذه المساواة، ومن جهة ثانية السعي في ألا تخفي التسوية الاختلافات الحقيقية التي تم إقصاؤها. وتعتبر هذه المرحلة من المراحل الأكثر إثارة، ليس فقط لأنها تمثل لحالتنا وأن تحقيقها صعب المنال، ولكن أيضا لأن الصيغة التي تعبر عن محتواها الحقيقي ينبغي ابتكارها وتسجيلها ضمن نسق العلائق الفعلية بين بني البشر دون أن يؤدي ذلك، في الوقت نفسه، إلى تراجع في مجال المساواة”.

التعدد الثقافي الليبيرالي

باتريك سافيدان: الثقافة لا تتمثل في كيان ساكن منطو على ذاته ومنغلق على أفراده فالثقافة ناتجة عن صيرورات تاريخية

يتساءل سافيدان “هل للحياد طبيعة تمكننا من تجاوز الالتزام بالخط السياسي للاعتراف، وتمكننا من تجنب مخاطر الطائفية؟ وهل يشكل الحياد الإثن ـ ثقافي للدولة جوابا مقنعا لتطلعات وحاجيات الأقليات الثقافية؟”. ويشير إلى أن معظم المنظرين يجيبون سلبا على هذين السؤالين. ونلاحظ أن هذا يوازي بمعنى ما عودة النقد الموجه في البدء للتعدد الثقافي. ولا يعني هذا إذن، من وجهة النظر هذه، التمسك بالدفاع عن التعدد الثقافي ضد اتهامات الطائفية، ولكن الأمر يتعلق بتوضيح أن المجتمعات الديمقراطية الليبيرالية لا تحترم، مؤسستيا، مبادئ الفردانية، وذلك على الرغم من التصريح بها.

وقد تم تطوير هذا النقد من قبل تيار طائفي قوي، تمكن بالإضافة إلى ذلك من تسخير المعارف المنتجة لمواجهة تأثير العوامل الثقافية واللغوية والدينية. إن المعاينة التجريبية لمختلف حالات الضعف التي تعتري مبدأ الحياد، توضح أنه إذا كانت الدول/ الأمم الليبيرالية قد تمسكت بمحاربة المجموعات التي تبحث عن فضاء شرعي وسياسي يمكنها من التعبير عن هويتها الخاصة، فهذا لم يمنعها من بناء كيان يحدد هويتها الثقافية الخاصة، وبمعنى آخر لا تطبق الدول/ الأمم الليبيرالية على نفسها المبادئ التي تسخرها لمحاربة الأشكال الإثن ـ ثقافية والدينية.

 ويلفت إلى أن الصعوبات الناتجة عن ذلك يمكن فهمها، لأن المحددات الخاصة بالهوية الوطنية تكون متجذرة في القدم، حيث لا تدرك على أنها تشكل خصوصية. ويتم هذا تماما وكأن صيرورات التوحيد بنيت باسم المطالب العالمية. وحتى إذا تحاشينا تلك الأصوات التي تدافع عن خصوصية ما، معتبرين فقط الأصوات التي تدافع عن تصور قوي للحياد، فإننا نلاحظ أن الاعتراف بالخصوصية في إطار الحياد يكون بهدف جعله إرثا غريبا، على أساس أن المحددات المنفردة لهذه الخصوصيات ستذوب مع الزمن في ثقافة مشتركة مقبولة من لدن جميع الأفراد، كيفما كانت هويتهم الثقافية.

 ويعترف سافيدان بأن الدولة من أجل تحقيق الأهداف التي تأسست من أجلها، لا يمكن أن تمتنع، بالنظر إلى بعض المعايير، عن التصرف كفاعل ثقافي. ويضمن لها هذا التصرف اكتساب فعالية تحقيق سوق الشغل، وتأهيل الاقتصاد وضمان التوزيع النسقي للاستقرار الاجتماعي وضمان السير العادي للحياة السياسية وغيرها.

ولا يمكن للدولة انطلاقا من هذا ألا تمنح امتيازا لعدد محدود من اللغات. وقد عرفت هذه المسألة معالجة غير كافية في إطار الدول/ الأمم.

 ويوضح أن من آثار الاعتراف بهذا التدخل الثقافي والسياسي كذلك، أنه يشير إلى أن المجتمع الديمقراطي الليبيرالي يشكل إنتاجا معقدا ومتناقضا لتاريخ خاص. ومن أجل ذلك لا يطرح الاندماج في مجتمع خاص من هذا النوع أي مشاكل للفرد القادم من مجتمع له تاريخ مماثل. وفي المقابل قد يكون نفس الاندماج معقد التحقيق بالنسبة إلى فرد قادم من مجتمع تكون فيه قيم الفردانية الأخلاقية شبه حاضرة أو مرفوضة.

 ويرى سافيدان أن التعدد الثقافي في نسخته الليبيرالية يدافع عن سياسة الاعتراف على أساس الالتزام بحرية الاختيار والاستقلال. ويفرض هذا الالتزام على وجه التدقيق، الاعتراف بالانتماء الثقافي. ويقول “يمكن أن نستخلص على هذا الأساس ثلاثة أصناف من الاستدلالات المرتبطة بالاعتراف بالحقوق، التي تختلف بالنظر إلى الانتماء إلى مجموعات وطنية: أولا المساواة، إذ تعاني المجموعة التي تشكل أقلية ظلما ويجب تصحيحه، ثانيا التاريخ، حيث تستند الأقلية إلى وجود مطالب بنيت على أساس اجتهادات معينة أو اتفاقيات سابقة (مثلا: المعاهدة بين المستوطنين والشعوب الأبوريجية)، ثالثا القيمة اللازمة للتنوع الثقافي.

 ويتابع “يوظف الاستدلال الأول عامة للتعبير عن أنه ينبغي التعامل، من باب العدل والانصاف، مع كل المواطنين على قدم المساواة ويقتضي مفهوم العدالة التامة الأخذ بعين الاعتبار كل الخصوصيات وليس فقط تلك التي تميز الثقافة السائدة. والاستدلال الثاني يمكن أن يرتبط فيه الاعتراف بالاختلاف بوجود معاهدات أو اتفاقيات تاريخية تضمن الاستقلال ولو نسبيا للمجموعة التاريخية المعنية بالأمر، ويختلف هذا الاستدلال عن الأول بالنظر إلى أنه يثير أساسا صعوبات ذات طابع واقعي وقانوني، ونلاحظ أن الاستدلالين معا يشتركان في التأكيد على التزام المجموعة السائدة أو التي تشكل أغلبية باحترام الأقلية”.

أما الاستدلال الثالث، في رأي سافيدان، فيختلف عن الاستدلالين السابقين، إذ يتمثل في الدفاع عن حق الاختلاف بالاستناد إلى التنوع الثقافي على أنه معيار، وعلى هذا الأساس يحيل الاستدلالان الأولان إلى التزامات المجموعة السائدة تجاه الأقلية، وفي المقابل يؤكد الاستدلال الثالث على ضرورة اعتداد المجتمع في كليته بالتعدد الثقافي. ويكتب روبير فولك في هذا الاتجاه “يطور التنوع الاجتماعي كيفية الحياة من خلال إغناء تجربتنا”. ونضيف بهذه المزايا الأخلاقية والفنية والتربوية إلى التنوع الإثن ـ ثقافي، ومن وجهة نظر سياسية إلى التعدد الثقافي. ويتحول التنوع الثقافي في حد ذاته وبسرعة إلى قيمة في إطار هذا التصور. ويبرر المحتوى الثقافي والمعياري، كيفما كان، بالنظر إلى أنه يمثل خصائص تميزه داخل الثقافة السائدة، ويصبح التعدد الثقافي معيارا يمكننا من الاعتداد بمعايير أخرى.

 ممارسات الأقلية الثقافية

الاعتراف بالخصوصية في إطار الحياد
الاعتراف بالخصوصية في إطار الحياد

 يلاحظ سافيدان أن الثقافة لا تتمثل في كيان ساكن منطو على ذاته ومنغلق على أفراده، وأنه ينبغي الاعتراف بأن الثقافة ناتجة عن صيرورات تاريخية متعددة تتفاعل مع عناصر ثقافية أخرى لا تقل تعقيدا، وتتغذى أيضا من الاعتراضات الداخلية، ويرى البعض ممن يعتقدون بتمام وجهة نظرهم، أن منع الحجاب سيسمح بتفتح المرأة المسلمة، وينطلق هؤلاء من فكرة أن النساء سجينات هذه الثقافة المنغلقة. ذلك أن الثقافة إذا لم تخضع للصراعات والانقباض الاجتماعي فإنها لن تكون تلك الثقافة المتمرسة والثائرة.

وإذا كانت مشكلة النساء تطرح أساسا مسألة حقوق، فإننا سنعمل بداهة على انتقاد ممارسات الأقلية الثقافية عند عبثها بهذه الحقوق، ويمكن أن نوجه نفس الانتقادات عند إنكارنا لكل ما يمس بالحريات وبحقوق المرأة بالنسبة للثقافة السائدة، وفي المجتمع ككل. ولكن لا يمكن أن نتصور أن المرأة المسلمة عاجزة عن هذا الانتقاد وأن مصيرها يرتبط بإدارة المجتمع. ومن المهم ملاحظة أن الدولة لا تكتسب شرعية لتجعل المرأة تختار بين حريتها وثقافتها، وأن التدخل هنا يماثل التدخل في عقيدة الكاثوليكي، ويمكن أن نفترض أن النساء يطمحن فقط لممارسة حريتهن دون التخلي عن هويتهن.

 ويخلص إلى أن التعدد الثقافي في سياق العولمة أصبح مجبرا على مراجعة طرق انتشاره، وقد أشار ويل كيمليكا بالنظر إلى انخراط المنظمات الدولية، إلى أن هناك “ترددا كبيرا في الطريقة التي تحدد بها المنظمات الدولية خطاباتها ومعاييرها. وتقلص الشعور بالاستعجال إزاء هذه المسألة، وتراجعت مسألة حقوق الأقليات ضمن لائحة الأولويات الدولية. وسنلاحظ احتمال التراجع التدريجي للأبعاد الأكثر تقدمية ما لم يتجدد الاهتمام والالتزام”. ولا يمكن الرجوع إلى الوضعية السابقة بما أن العنف ضد الأقليات يبقى المصدر الأساس للانشغال على المستوى الدولي، وبما أن العدالة الاجتماعية تتضمن بالضرورة بعد الاعتراف. وليس مرغوبا فيه كذلك أن نبقى وسط الطريق. يجب إذن التقدم، ولكن يجب أن نتقدم في حذر.

11