ما شأن أميركا لتدعم الحروب؟

بعد عشرين ساعة من عودته من زيارة سريعة إلى إسرائيل التي تستعد لاجتياح بري لقطاع غزة، ومع تصاعد التوترات بعد قصف مستشفى المعمداني الذي أسفر عن مقتل المئات، سارع الرئيس الأميركي جو بايدن لحشد دعم الأميركيين لتوجيه مليارات الدولارات إلى إسرائيل وأوكرانيا، واستغل ما اعتبر بالخطاب النادر في المكتب البيضاوي ليقول إن الدعم الأميركي مهم للغاية للحليفتين الرئيسيتين اللتين تخوضان حربين.
وعبر بايدن الذي رفض أن يحمل إسرائيل مسؤولية قصف المستشفى، عن قلقه من أن بعض الأميركيين يتساءلون “ما شأن أميركا” لتدعم الحروب؟
وأضاف “أعلم أن هذه الصراعات قد تبدو بعيدة”، ولكن خصوم أميركا يراقبون كيف سيتطور الصراعان وقد يثيرون أزمات في مناطق أخرى من العالم وفقا لما تؤول إليه الأمور.
وطلب بايدن تمويلا طارئا يقول مسؤولون أميركيون إنه سيبلغ 100 مليار دولار على مدى العام المقبل.
موقف الرئيس الأميركي الذي حظي بمباركة الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، يبدو لغزا بالنسبة إلى الشارع العربي، الذي لا يجد أمامه سوى نظرية المؤامرة لتفسيره.
ما يختلف حوله في الغرب، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، ليس طبيعة الصراع وأسبابه، بل الموقف الإنساني. حتى الرئيس الأميركي نفسه لم يطل به الأمر ليذرف بعض الدموع على الضحايا المدنيين، قائلا “لا يمكننا أن نتجاهل إنسانية الفلسطينيين الأبرياء الذين يريدون فقط العيش في سلام وأن تتاح لهم الفرص”.
الجدل حول من يمثل الفلسطينيين الآن جدل عقيم، المطلوب إيقاف المجزرة الإسرائيلية التي ترتكب في غزة، والجلوس إلى طاولة المفاوضات. بعد ذلك فقط يترك للفلسطينيين اختيار من يمثلهم
ما يبدو أمرا واضحا بالنسبة إلى الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، حتى في الدول التي سارت في طريق تطبيع العلاقات مع إسرائيل وأقامت معها علاقات دبلوماسية، يبدو معكوسا تمام بالنسبة إلى الغرب.
إسرائيل قطعت عن أهل غزة الماء والكهرباء وأمطرتهم بوابل لا ينقطع من النار، وأغلقت حتى كتابة هذه السطور المعابر ومنعت دخول المساعدات لهم، وهي تستعد لهجوم بري، وأعداد الضحايا قاربت أربعة آلاف قتيل معظمهم من الأطفال، إلى جانب الآلاف من الجرحى الذين يصعب تأمين العلاج لهم.
ما يحدث في قطاع غزة ليس سرا، بل خبر يصل إلى المتابعين بالصوت والصورة، تنقله وسائل الإعلام. رغم ذلك يصر الناس في الغرب على تفسير ما يحدث بطريقة مخالفة تماما للطريقة التي نفسر بها الأمور.
لماذا فشلنا في إيصال وجهة نظرنا حول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟ ولماذا يعجز العالم عن رؤية حقيقة تبدو لنا ناصعة بعد أن جربنا كل الطرق، وقبلنا بالحلول وأنصاف الحلول ومضينا بتطبيع العلاقات وتساهلنا بالشروط، وكانت أقصى مطالبنا أن يكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة؟
لماذا تصر إسرائيل على رفض هذا المطلب، ولماذا يقف العالم صامتا؟
هل هي عقدة الذنب لمجازر ارتكبها أسلافهم النازيون بحق اليهود، أم هي مخلفات حروب صليبية ونزعة دينية، أم هو تهاون منا لأننا فشلنا في خلق لوبي يدعم وجهة نظرنا، وتحالفنا مع الحليف الغلط في فترة الصراع مع الشيوعية، أم هو فشل في الحرب الإعلامية التي لم نجد لأنفسنا فيها موطئ قدم، أم فشل في أن نكون قوة اقتصادية مؤثرة.. أم هي كل هذه الأسباب مجتمعة؟
ستة أسباب تشكل جوهر نظرية المؤامرة تبدو بالنسبة إلينا مؤثرة، ولكنها في الحقيقة محدودة الأهمية، هذا إن لم تكن عديمة الأهمية.
السبب الحقيقي لتعاطف دول الغرب مع النسخة الإسرائيلية لسيناريو الصراع في الشرق الأوسط عبر عنه بوضوح شديد الرئيس الأميركي بعد عودته من زيارة إلى إسرائيل، حيث سعى إلى الربط بين حماس في قطاع غزة وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اجتاحت قواته أوكرانيا في فبراير 2022.
بالنسبة إلى بايدن حماس وبوتين يمثلان تهديدين مختلفين، لكنهما يشتركان في أمر واحد: كلاهما يريد القضاء على ديمقراطية مجاورة.
قد يكون مفيدا أن نذكر "دون كيشوت" الولايات المتحدة بايدن بأن حروبه بعيدا عن أميركا لم تجد الأميركيين نفعا سواء في فيتنام أو أفغانستان أو العراق.. وهي حتما لن تجدي نفعا في فلسطين
لطالما أنفقت الإدارة الأميركية سواء في ظل الديمقراطيين أو الجمهوريين مليارات الدولارات على حروبها الخارجية دون أن يطرح الأميركيون السؤال الذي نوه إليه بايدن “ما شأن أميركا” لتدعم الحروب؟
وهي حروب تجري أصلا بعيدا عن أرضها.
رغبة الولايات المتحدة في أن تكون الاقتصاد الأكبر والأول في العالم سبب لا يمكن استبعاده، ولكن هذه الرغبة لم تدفع الولايات المتحدة إلى الدخول في حرب مع أوروبا، بل على العكس كان الأميركيون على استعداد لتحمل خسائر مادية وبشرية والدخول إلى جانب الدول الأوروبية (الديمقراطية) ضد ألمانيا (النازية) في الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك رأينا الولايات المتحدة تتورط بحروب في فيتنام وأفغانستان وفي العراق.. وهي اليوم تخوض بدايات حرب باردة مع الصين، رغم طابعها التجاري لا يمكن التستر على الجانب الأيديولوجي فيها.
عندما يتحدث بايدن عن تهديدات للديمقراطية فهو يشير بذلك إلى حماس تحديدا. ولكن هل من حق أي جهة أن تحدد من يمثل الشعب الفلسطيني سوى الفلسطينيين أنفسهم؟
رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس انتقد أفعال حماس في تصريحات نشرتها “وفا” على موقعها الإلكتروني. لكن الإشارة إلى اسم حماس حذفت بعد ساعات من نشر التقرير، وقامت الوكالة بتعديل التصريحات لتصبح “أكد الرئيس أن سياسات وبرامج وقرارات منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تمثل الشعب الفلسطيني بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليس سياسات أي تنظيم آخر”.
الجدل حول من يمثل الفلسطينيين الآن جدل عقيم، المطلوب إيقاف المجزرة الإسرائيلية التي ترتكب في غزة، والجلوس إلى طاولة المفاوضات. بعد ذلك فقط يترك للفلسطينيين اختيار من يمثلهم.
وقد يكون مفيدا أن نذكر “دون كيشوت” الولايات المتحدة بايدن بأن حروبه بعيدا عن أميركا لم تجد الأميركيين نفعا سواء في فيتنام أو أفغانستان أو العراق.. وهي حتما لن تجدي نفعا في فلسطين.