ما سرّ تونس إذن، وما سرّ أهلها؟

كل من جاءها زائرا أو غازيا أو مستجيرا وقع بحبها.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي كانت تونس بالنسبة إليه ملجأ يلجأ إليه طيلة عشر سنوات، تساءل قبل أن يغادر ترابها: “كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس.. لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند ما لم نره في أي مكان”.
الشاعر الدمشقي نزار قباني قال مخاطبا تونس: “يا تونس الخضراء جئتك عاشقا وعلى جبيني وردة وكتاب.. أحرقت من خلفي جميع مراكبي إن الهوى أن لا يكون إياب”.
هناك من بين زوارها من أحرق المراكب، وآخرون أدمنوا الإياب إليها.
تقول الأسطورة إن أوليس بطل ملحمة الأوديسة عندما حلت عليه لعنة إله البحر بوسيدون وضل طريقه في عبور المتوسط اكتشف جزيرة جربة، بعد أن سمع أصواتا غريبة صادرة من شواطئها تناديه، فأرسل إليها اثنين من بحارته الشجعان لاستكشافها، فأحسن أهل الجزيرة استقبالهما وقدموا لهما الطعام والشراب فانتابتهما حالة من النشوة ونسيا السفينة والعودة إلى الوطن وفضلا البقاء على أرض الجزيرة.
◙ تونس ليست مدينة فاضلة، بل هي مدينة من لحم ودم وعرق. وإن تونس الفقيرة بمواردها على عكس الدول التي تجاورها غنية بناسها
حتى الغزاة وجدوا مستقرا لهم في تونس، منذ أن جاءها بنو هلال في القرن الحادي عشر ميلادي. وقبل ذلك أيضا، عندما استقر الفينيقيون على سواحلها ومن بعدهم جاء الرومان.
أفراد الجالية اليهودية التي غادر معظمهم تونس بعد حرب 1948 يعودون إليها سنويا للحج في معبد الغريبة في جزيرة جربة. ويحظى المعبد بمكانة خاصة لدى اليهود، باعتباره الأقدم في أفريقيا وترقد فيه (بحسب الأسطورة) واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم.
وتتوزع في تونس جالية صغيرة من اليهود يعيشون بأمن وسلام حتى يومنا هذا.
في عام 2002 زرت تونس لأول مرة في زيارة عمل إلى مدن سبعة أيام فأدمت الإياب أليها. فما سر تونس إذن وما سر أهلها؟
من خبر تونس يعلم أن التونسيين لا يحتاجون ولا ينتظرون شهادة من أحد. يجب ألا يفسر هذا الكلام بأن التونسي متكبر، أو أن للتونسي موقفا سلبيا من الغرباء، عربا كانوا أم أجانب. على العكس تماما، لا يوجد من هو أكثر تقبلا للآخرين من أهل تونس. التونسيون يتقبلون الآخرين كما هم، وينتظرون من الآخرين أن يتقبلوهم كما هم.
انفتاح تونس على العالم ليس وليد السنوات الأخيرة، تونس عرفت انفتاحا على العالم منذ أطلق عليها الرومان اسم أفريقيا في القرن الثاني قبل الميلاد، وقبل ذلك أيضا. وقد يستغرب البعض القول إن تونس مزيج حضاري وعرقي. ولكن هذه هي الحقيقة.
البلد الذي يشتكي اليوم بعض من أهله غياب الديمقراطية، هو واحد من أكثر الدول العربية ديمقراطية، وبالدليل.
لن نستشهد بمنح تونس جائزة نوبل للسلام، بعد أن اجتازت ما سمي بالربيع العربي الذي أحرق دولا من بعدها متكبدة أخف الأضرار.
للتونسيين الذي ظنوا أنهم دفعوا ثمنا غاليا، نقول انظروا من حولكم. سترون بلادا يعبث فيها الجيش فسادا، وتعبث فيها الميليشيات خرابا.
أول ما يلحظه الزائر العربي إلى تونس، هو غياب المظاهر المسلحة وغياب الجيش في الطرقات. الجيش في تونس مكانه الثكنات وحماية الحدود. بينما استولى الجيش في دول عربية عديدة على السياسة وانفتحت شهيته على الاقتصاد.
◙ الشارع التونسي لم يخيب آمال الرئيس سعيد. بل خيب آمال “اللوبيات والأطراف” التي تحاول زعزعة استقرار البلد
ويتحدث البعض عن غياب الديمقراطية في بلد انتخب به الرئيس بنسبة تجاوزت 72 في المئة، في انتخابات كان العالم شاهدا على شفافيتها، ولم يدخل قصر قرطاج على أسنة الرماح.
ويبكي البعض الآخر ما يقول إنه غياب حرية الرأي والتعبير في تونس، بينما المحتجون يخرجون إلى الشارع رافعين شعارات لا تستثني أكبر رؤوس الحكم. شعار واحد منها فقط يكفي في دول عربية أخرى ليودي بصاحبه إلى التهلكة.
كيف يقبل زائر إلى تونس من دول الجوار حديث التونسي عن غياب الأمن وهو الذي شعر ما أن وطئت قدماه أرضها بأمان افتقده في بلده وداخل بيته.
دعونا من دول الجوار. اسألوا قادما إلى تونس من لندن ومن نيويورك ومن باريس، سيقول لكم إن تونس أكثر أمانا من تلك الحواضر المزدهرة.
وبينما يشتكي التونسي ضعف الخدمات، يأتي الجزائريون والليبيون إليها بالآلاف قاصدين الراحة والاستفادة من خدماتها وجودة الرعاية الصحية في مشافيها. وتمتلئ عشرات الجامعات التونسية الخاصة التي تدرس فيها مختلف التخصصات العلمية والفنية بالآلاف من الطلبة الأفارقة الذين يأتونها طلبا للعلم.
حدثني صديق جزائري أمضى حياته متنقلا بين عواصم أوروبية أنه خرج مرة من تونس غاضبا من تعاملات اتسمت بالروتين متجها إلى الجزائر، حيث أمضى شهرين، عاد بعدهما إلى تونس، فكان أول ما فعله أن جثا على ركبتيه وقبل ترابها.
الوضع الاقتصادي في تونس صعب، هذه حقيقة. هناك ارتفاع في الأسعار وعجز في الميزان التجاري وديون خارجية يجب أن تسدد. وهناك نقص في المواد الغذائية، آخرها الخبز الذي تناقصت كمياته في المخابز.
ولكن، لأن الشيء بالشيء يقاس، ولأن الأزمة الاقتصادية ظاهرة عامة لها من الأسباب ما يفسرها، يمكن أن نقول إن تونس صمدت حتى هذه اللحظة أمام الإعصار الذي أطاح بالعديد من الاقتصادات وانتهى بدولها إلى مهاوي الإفلاس، وحول دولا كانت حتى وقت قريب مزدهرة، إلى دول فاشلة.
إضافة إلى السنوات العشر العجاف التي تلت ما سمي بـ”الربيع التونسي” هناك أزمات طالت تونس مثلما طالت دولا أخرى، بدءا بجائحة كورونا ومرورا بالحرب في أوكرانيا وثلاث سنوات من الجفاف وشح الأمطار.
هناك أيضا “لوبيات وأطراف” اتهمها الرئيس التونسي قيس سعيّد بالوقوف وراء أزمة نقص الخبز ومواد غذائية أساسية أخرى، الهدف منها “تأجيج المجتمع لغايات سياسية واضحة”، مطالبا الشعب والمخلصين للوطن بالانتباه إلى ذلك.
لم يخيب الشارع التونسي آمال الرئيس سعيد. بل خيب آمال “اللوبيات والأطراف” التي تحاول زعزعة استقرار البلد.
◙ بينما يشتكي التونسي ضعف الخدمات يأتي الجزائريون والليبيون إلى تونس بالآلاف بهدف الراحة والاستفادة من خدماتها وتمتلئ جامعاتها التي تدرس فيها مختلف التخصصات العلمية بالآلاف من الطلبة الأفارقة يقصدونها طلبا للعلم
يبدو صمود تونس اليوم بوجه هذه الأزمات استثنائيا بكل المقاييس. في 15 يناير 2020، مع بدء انتشار فايروس كورونا كان سعر الدولار بالنسبة إلى الدينار التونسي 2.82 تقريبا، اليوم السعر هو 3.09.
قارنوا هذه الزيادة الطفيفة نسبيا بما حدث لعملات دول مجاورة وأخرى في منطقة الشرق الأوسط، أصبح سعر عملتها لا يساوي سعر الورق الذي تطبع عليه.
لن نقول إن هذه معجزة. زمن المعجزات “تعدى وفات” كما تقول كلمات أغنية تونسية للرائع الهادي الجويني. ولكنها حكمة وخبرة يشهد لها تهافت دول كثيرة على تصيد الخبرات التونسية.
رغم ذلك أعود وأكرر ما قلته قبل 18 عاما، إن تونس ليست مدينة فاضلة، بل هي مدينة من لحم ودم وعرق. وإن تونس الفقيرة بمواردها على عكس الدول التي تجاورها غنية بناسها.
هذه حقائق يدركها المراقب الخارجي أكثر مما يدركها ابن البلد.
يقال، والعهدة على الراوي، إن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عبر يوما عن إعجابه بتونس واعتبرها نموذجا يحتذى. وهي كذلك.