ما دامت الحياة بهذه العفوية والسذاجة فلا داعي للفلسفات

الكثير من الشعراء ينغلقون على ذواتهم وعذاباتهم الخاصة، فتغدو عوالمهم الشعرية مغلقة بدورها، لا تقدم الكثير لقرائها، في المقابل هناك شعراء آخرون ينخرطون في الآخر متناسين ذواتهم، ما يجعل من أشعارهم تفقد وهج الصدق وحرارته، لذا فمن الصعب أن نجد شاعرا يلامس ذاته ليلامس الآخر والكون، فمن ذاته تنطلق رؤيته.
الخميس 2017/12/28
الرؤية الشعرية تبدأ من الذات إلى الوجود (لوحة للفنان جيفاكو دمكان)

في نهاية عام 2017 صدر عن دار “تبر الزمان” التونسية، كتاب “ترنيمات الخلوة” الذي تضمّن مجموعة من القصائد المنثورة للشاعر الجزائري حميد بوحبيب. وهو إلى جانب كتابة الشعر إذ سبق أن صدر له ديوان عن دار “التنوير” بعنوان “بالأحمر والأسود”، باحث في الأنثروبولوجيا، وفي الأدب الشعبي. وظني أن حميد بوحبيب أحسن اختيار عنوان مجموعته “ترانيم الخلوة” نازعا بذلك عن نفسه كل ما يمكن أن يوحي للقراء بالادّعاء والبطولة المفتعلة.

لا شيء حقيقي

من البداية يهمس لنا الشاعر بأن قصائده هي من وحي الخلوة التي فضل اللجوء إليها هربا من عالم يعتمل بالأكاذيب و”الحماقات”، وفيه يكثر الضجيج والعنف، وتتساقط فتاوى التحريم والقتل والبطش بالناس، وترهيب النساء، وتجريمهن لمجرد بهاء طلعاتهن، وجمال ابتساماتهن، ووجوههن، تساقط أوراق الخريف الذابلة لتزيد في تعقيد الحياة وتنغيصها وإفسادها.

ومن البداية يهمس لنا بوحبيب أيضا أن قصائده المنثورة هي أغان وأناشيد مهداة إلى نفسه في زمن صعب ومضطرب. لكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أنه منفصل عن العالم الخارجي، أو غير مبال بما يحدث فيه، بل إنه يفضل أن ينظر إليه من “ثقب الباب” مثلما كان يفعل بطل رواية “الجحيم” للكاتب الفرنسي هنري باربوس الصادرة في نهاية الحرب الكونية الثانية. مع ذلك هو “ينظر ويرى” العالم في اتساعه وقد غمرته شرور وأخطاء البشر الذين يتفنون في تحويل الحياة الجميلة إلى “جحيم”. ومثل بطل هنري باربوس فهو “يرى أعمق من اللازم”، ومثله أيضا لا يتعب نفسه في التفكير حول أسباب الخراب وهموم البشر إذ أنه “نفذ إلى قلب الإنسانية فلم يجد شيئا إنسانيّا”. أما الحقيقة التي يزعم فقهاء الدين والسياسة، و”شياطين الأيديولوجيات” أنهم امتلكوها عن جدارة، فلا تعني له شيئا، إذ أن التجارب علمته أن “لا شيء حقيقيا في المطلق”.

الشاعر "ينظر ويرى "العالم في اتساعه وقد غمرته شرور وأخطاء البشر المتفننين في تحويل الحياة الجميلة إلى "جحيم"

يتغنى بوحبيب بنفسه لكنه يفعل ذلك مثل الأميركي والت ويتمن في “أوراق العشب”، أي أنه لا يعيش منطويا على نفسه، طالبا النجاة والخلاص لذاته فقط، بل لأنه أدرك أنه لن يتمكن من أن يكون قريبا من العالم الخارجي إلّا عندما يكون قريبا من نفسه. وعكس الشعراء الذين ينسون أنفسهم حين يلقون بها في محيط العالم الخارجي شديد الاضطراب، ويلجأون إلى العكاكيز الأيديولوجية وإلى القضايا الكبيرة متوهمين أن كل هذا هو المادة السحرية للشعر، هو يفضل أن يبحث في عالمه الداخلي عن كل ما يساعده على إدراك وفهم ما يحدث في العالم الخارجي.

وعكس هؤلاء أيضا فهو لا يريد أن “يختبر ما هو خارجي”، وأن يبحث عن “أصول الأجناس” وأن يرسم صورة للحياة “كما تبدو”، وأن ينظر إلى الإنسان من خلال رجال السياسة، والقانون، والدين، بل هو يخيّر أن يتعامل مع هذا الإنسان كما هو، من دون زيادة ولا نقصان، ولا سعي من جانبه لإصلاحه أو إفساده، أو إرشاده، أو توجيهه اعتمادا على طموحاته ونزعاته الشخصية.

الانفتاح على الشعراء

يحب حميد بوحبيب أن يتماهى مع شعراء يقاسمهم رؤيته للشعر وللحياة، والتركي ناظم حكمت واحد من هؤلاء. وهو مثله “يعشق الأشياء الصغيرة، وما لا يباع في الأسواق والمتاجر”، مثل “غليون كيف من الصّنْدل، وقدّاحة روسيّة من القرن الماضي، ولوحات لمدن عتيقة، وخاتم ترقي، أو علبة فضيّة للسجائر”. ولا يكتفي بوحبيب بمجرد الإشارة إلى بطولات ناظم حكمت خلال سنوات السجن والمنفى الطويلة، بل يكتفي بتمجيده لأنه لا يبالي بعقائد الناس ولأنه “يسبح ضد التيّار”، ولأنه “يبحث في وجوه الصبايا عن رعشة، عن دهشة من الزمن الغابر”. ثم لا يلبث الشاعر أن يعود إلى نفسه حين “تعصف الأشجان بخلوته”، و”يلفه غبن جائر” ليحثّ نفسه على أن “يمتّع ناظريه بسحر الوجود” لأن السعادة الحقيقية هي أن “يحيا وأن يكون”، وكل ما تبقّى “أضغاث أحلام وقيود”.

وهذه السعادة التي يتوق إليها ليست في الحصول على “نعم زمن الاستهلاك الجنوني”، وإنما هي تكمن في كل ما هو بسيط وبريء وحقيقي. في “نثار الصباح وهو يعانق الستائر”، وفي “شعاع يتثاءب على الشرفات”، وفي “رائحة القهوة تنبعث من عند الجيران، وتغزو فضاءه الهادئ، وتلثم حواسه صباحا قبل أن يسافر”.

كما تكمن هذه السعادة في رؤية صبية على دراجة تنساب وسط الزحام والنسيم يقبل ساقيها ويعبث بفستانها القصير”، وفي مشهد شيخ “على مقعد عمومي يقرأ الجريدة ويدخن الغليون ويرمي بفتات الخبز للحمام”، وفي امرأة “ترضع وليدها في المحطة ولا تبالي بمن ينظر إلى نهديها خلسة لأنه في تلك اللحظة خارج الملكوت”. وما دامت الحياة على هذه الصورة من العفوية والسذاجة والبساطة فإن كل الفلسفات التي تزعم تفسيرها وحلّ عقدها وفك ألغازها هي في الحقيقة “بائسة”، وغير ذات فائدة. فقط الفلسفات التي “تعلمنا شهيق الشمس وزفير القمر” هي الجديرة بالعناية والاهتمام. ويخاطب الشاعر نفسه قائلا:

الحياة جميلة يا حميد/ فلا تسمحْ لهم أن يغتالوا/ سحرَ القبلة والبسمة والشبق.

يحتفي حميد بوحبيب أيضا بالشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. وهو لا يحتفي به كرمز لقضية شعب سلّطت عليه مظلمة تاريخية، بل كـ”دالية في القلب وغصن زيتون موغل في الذبول وحظ من الأوطان منكود”. ويحتفي به أيضا لأنه “علّم الزعتر البلديّ كيف يندس في القوافي”، و”حبل الغسيل كيف يحمل أزرار المنفى ويبقى معلقا ويبقى مؤرقا يحرس حارة الفقراء”. كما أن محمود درويش” علّم رائحة الخبز والقهوة أن تنفذ إلى غشاء الكلمات وتبقى تائهة في العبق، تائهة في الشبق حين تخونها العهود”.

14