ما بين تونس وليبيا أثمن من كل ما يعبر الحدود

كل وضعية تكون عليها تونس الآن تثير اللغط والجدل والنقد، وتُلهب البلاتوهات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي تنمرا واستهجانا من قبل جمهور السياسيين والإعلاميين والنقابيين، وكذلك كافة المتصيدين في الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
الأمر أشبه بحكاية جحا وابنه والحمار: إن ركب الوالد وترك الصبي وصفوه بالقسوة على الصغير، وإن حل الصبي مكان أبيه نعتوه بالعقوق، إن امتطى الاثنان ظهر الحمار اتهموهما بعدم الرأفة بالحيوان، وإن ترجّل الاثنان إلى جانب الحمار وصفوا الوالد والابن بالحماقة وقلة الحيلة.. إلى أن تقاسم الرجل والابن حمل الحمار على ظهريهما فاتهما بالجنون.
تونس تلقت أخيرا مساعدات من ليبيا متمثلة في عشرات من الشاحنات المحملة بمواد غذائية من سّكر وزيت ودقيق وأرز، وذلك تضامنا من الجارة الجنوبية، ووقوفا منها إلى جانب البلد الذي طالما آزرها بكل الأشكال في كافة محنها منذ احتلال الفاشية الإيطالية لأراضيها بداية القرن الماضي إلى يوم الناس هذا.
أين الحكومة التي تقول إن تونس لا تشكو من أزمة نقص في المواد الغذائية وإنما هي أزمة مفتعلة تسبب فيها المحتكرون والمضاربون.. أما كان الأجدر أن تحارب الدولة هؤلاء قبل أن تفتح حدودها لمساعدات يراها الكثير مهينة
يبدو المشهد في حدود هذه الصيغة الخبرية عاديا جدا، ويحدث كل يوم بين دول العالم، خصوصا أمام الأزمات التي تعصف بالجميع، أما الصيغة التحليلية للمشهد في تونس فتعطيه تأويلات وأبعادا أقرب إلى حكاية جحا وابنه والحمار.
الجدل قائم على مجموعة من المواقف والتحليلات والقراءات بين مرحب بمبادرة يرى في أبسط معانيها تقديرا للقرابة وحسن الجوار، وتضامنا مع شعب سبق له أن قدم الكثير للشقيقة ليبيا في أحلك ظروفها، ويعتبر ذلك شيئا من رد الجميل.
هؤلاء، ومن الطرفين، يمكن تسميتهم بـ”أصحاب النوايا الحسنة”، لكن من قرأوا المبادرة من زوايا متعددة أخرى، فتحوا أبوابا كانت موصدة على جملة من أسئلة: من أوصلنا إلى هذا الحد من الفاقة التي تجعلنا نتقبل المساعدات ونحن بلد خيرات كنا نلقب بـ”مطمورة روما” منذ التاريخ القديم؟
هل وصلنا حقا إلى هذه الدرجة التي نقبل فيها المساعدات الغذائية تحت الحراسة المشددة كما تؤكد عناصر الجمارك في معبر رأس الجدير الحدودي، والذي استضاف يوما مئات الآلاف من الليبيين وغير الليبيين، وقدم فيه التونسيون، بكل فئاتهم، جميع المساعدات الإنسانية، مما جعل جهات عديدة في العالم ترشح شعبا بأكمله لنيل جائزة نوبل للسلام.
لم يعرف التونسيون في تاريخهم القديم والحديث الفاقة والعوز إلا في ما ندر، فما الذي أوصلهم إلى هذا المشهد التراجيدي، وجعل حتى سلطاتهم تشدد الحراسة على قافلة المساعدات القادمة من بلد لم يتعاف بعد، وكان الأجدر بنا نحن “أن نكون اليد العليا وليس السفلى”، كما يقول لسان حال الغيورين منهم.
أين الحكومة التي تقول إن تونس لا تشكو من أزمة نقص في المواد الغذائية وإنما هي أزمة مفتعلة تسبب فيها المحتكرون والمضاربون.. أما كان الأجدر أن تحارب الدولة هؤلاء قبل أن تفتح حدودها لمساعدات يراها الكثير مهينة، وتحتوى في البعض منها على مواد تموينية قادمة من تونس نفسها؟
جميع هذه الأسئلة، وغيرها، ما تنفك تتناسل. تكبر وتتضخم ككرة الثلج وسط تفاقم الأزمة، ما لم تقدم الحكومة التونسية الأجوبة الشافية المتعلقة بطبيعة هذه المساعدات وهل طلبتها أم جاءت بمبادرة ليبية، وهل هي ماضية في إصلاحات جوهرية وأين وصلت.. وهل بتنا فعلا بلدا منكوبا؟
معارضو الرئيس قيس سعيد وحكومته تلقوا خبر المساعدات الليبية كغنيمة حرب ضده، ويحاولون توظيفها عبر المزيد من الشحذ والتأليب والإكثار من الشعارات الشعبوية
معارضو الرئيس قيس سعيد وحكومته تلقوا خبر المساعدات الليبية كغنيمة حرب ضده، ويحاولون توظيفها عبر المزيد من الشحذ والتأليب والإكثار من الشعارات الشعبوية على شاكلة “أصبحنا بلدا منكوبا ولاجئا في بلاده”، لكن الحقيقة التي قد يتجاهلها الكثير أن مبادرات تقديم المساعدات بين الدول تحدث كل يوم، وبين أغناها وأقواها اقتصاديا، ثم أن تونس سباقة كما يعلم الليبيون أنفسهم، وكذلك الجارة الغربية الجزائر، التي يحاول النظام فيها امتطاء الحدث لتتحول الأمور إلى “دبلوماسية أو حرب مساعدات”.
ما يمكن الاعتراف به هو أن تونس في أزمة، لكنها ليست في حجم الكارثة كما يصورها الغلاة والقانطون والمتشفون، فبإمكانها تخطي هذه الصعوبات التي تعيشها بلدان صناعية وغنية في أوروبا. وما هذه المساعدات التي يصفها المزايدون بـ”العار” إلا أمر طبيعي وشبه طبيعي بين الدول، فما بالك الأشقاء، خصوصا مع دولة “خيرها سابق” مثل تونس، لذلك على الأشقاء الليبيين ألا يبالغوا في تثمين المبادرة التي يشكرهم عليها التونسيون.
وفي هذا الصدد، فإن ما يتجاهله البعض أن رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة قد تعهد خلال زيارته الأخيرة إلى تونس بسداد 250 مليون دولار ديونا مستحقة لتونس قبل نهاية العام الجاري، وهي متعلقة بديون علاجية لمرضى ليبيين ومستحقات الكهرباء.
وكانت مستشفيات تونسية هددت، في وقت سابق، بمنع المواطنين الليبيين من العلاج بعد سنوات من مماطلة السلطات الليبية في سداد الديون الضخمة المتراكمة عليها لدى المستشفيات التونسية المقدرة بقرابة 100 مليون دولار عن العامين الماضيين فقط.
نظن أن هذه الأرقام أعلى بكثير من بضع شاحنات محملة بالسكر والأرز.. هذا في لغة الأسواق والأرقام، أما لغة القيم البشرية النبيلة فما بين شعبي تونس وليبيا أثمن من كل ما يعبر الحدود جيئة وذهابا.