ما بقي من رستم

خدمةُ الأقوياء أمرٌ شاقٌ لا يقدر عليه جميع الناس، لكن البعض يختار أن ينذر نفسه من أجل سيّد ما، يجعله نصب عينيه، دون أن يقدّم شيئا خاصا به في هذه الحياة. ثم يمضي وكأنه لم يكن.
بعد أن فشل نابليون بونابرت في تحطيم أسوار عكا، أهداه المصريون مملوكا تعبيرا منهم عن رغبتهم بجبر خاطر الإمبراطور. نظر نابليون إلى ذلك المملوك الضخم. لم يجد فيه شيئا أكثر من خادم جديد، لكنه سأله “هل تجيد ركوب الخيل؟” فكان أول ما أجاب به المملوك سيّده الجديد هذه الكلمات “نعم يا سيدي. وقد قاتلتُ العرب في معارك عدة”.
عرف ذلك العبد “الأبيض” أن إثارة مشاعر الإمبراطور الذي يقاتل العرب في هذه اللحظة هي أكثر مفتاح سيجعله يفتح له أبواب قلبه، فقال له إنه قاتل العرب، مع أنه كان بينهم مخلصا لهم قبل لحظات قليلة فقط.
سأله نابليون مجددا “ما اسمك؟” قال “أبجاهيا”. فاستغرب نابليون وقال “هذا اسم تركي، قل لي ما هو اسمك الحقيقي؟”. فقال المملوك “رستم رازا”. فذكّر الاسم نابليون بأمجاد قادة الفرس الذين كان يريد السير على خطاهم في غزو المشرق. فاتخذ من رستم خادما خاصا به، يرافقه دوما ويسهر في غرفته أثناء نومه لحمايته.
وكيدا بجميع قادته كرّمه نابليون وزوّجه من خادمة أخرى، بمبلغ خرافي في ذلك الزمن بلغ 1341 فرنكا. وأخذت الصحف الفرنسية تتناقل رسما لرستم بريشة هوراس فيرنيه، بعد أن صمم له أوجين إيزابي ملابس فاخرة، ولكنها كانت ذات طابع مصري تشير إلى المهزومين الذين قهرهم نابليون في مصر.
وكان من الطبيعي، وبعد أن عبده خمسة عشر عاما، أن يغضب نابليون على رستم ويتهمه بالخيانة، بعد أن فشلت حروب الإمبراطور وتم عزله ونفيه.
في الوقت ذاته، تبدو خدمة الضعفاء مناقضة تماما لخدمة الأقوياء، فالضعيف الذي تعمل على تنشئته سيكون له مستقبل ذات يوم يجعلك تفخر بأنه من صنعك. والفقير الذي تساعده يشعرك إنقاذك له بالنشوة لأنك منحته فرصة في العيش. والطفل والمرأة المظلومان في مجتمعهما إن قدّمت لهما القليل، فإنه سيكون عندهما كثيرا ويدفعهما إلى الأمام.
مات رستم ودُفن في فرنسا وكتبوا على قبره “هنا يرقد رستم رازا والمسمى أبجاهيا وبابا تام، المملوك القديم للإمبراطور بونابرت من مواليد تفليس بجورجيا”. واليوم بقيت تلك الكلمات مع لوحة فيرنيه التي رسمها لرازا في متحف الميتروبوليتان بنيويورك، لتكونا كل ما بقي من العبد المنتصر، وهو لا شيء، قياسا بالمجد الذي يتذكر به الناس اليوم سيَّده المهزوم.