ما الفرق بين قراصنة الكتب و"حرامية الغسيل"؟

الشاعر والروائي المصري حمدي عابدين: لا أرى تفوقا لنوع إبداعي على آخر والشعر بالنسبة إليّ كالرواية.
الخميس 2019/03/14
أغالب الظلام بالكتابة الروائية (لوحة للفنان سنان حسين)

تبقى الطفولة خزان حكايات مهيبا، يلجأ إليه أغلب الكتّاب للنهل منه ومن تفاصيله الصادقة والبسيطة والمُفعمة بإحساس الاحتكاك الأول بالعالم. لكن استحضار الماضي لا يخلو من مخيّلة الحاضر، وهذا ما تثبته العديد من الكتابات سواء أكانت شعرية أو سردية. “العرب” التقت الشاعر والروائي المصري حمدي عابدين في حوار حول رواياته وعلاقته بالشعر وقضايا ثقافية أخرى.

يواصل المصري حمدي عابدين تجربته الروائية دون أن يتخلّى عن كونه شاعرا تميزت رؤيته باتكائها على تجليات مواجهة المهمّش والمسكوت عنه في الحياة وتناقضاتها المثيرة، حيث يذهب إلى الرواية بمخزون من الحكايات الإشكالية في الواقع ورؤية عميقة نرى عليها آثار الشاعر في نظرته إلى دواخل الذات ورصده لتناقضاتها.

بدأت تجربة عابدين منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حيث كان حاضرا بقوة في المشهد الشعري. وقد قدّم خلال هذه المسيرة روايتيْ “حجر جهنم” و”بيت مخلوع النعل”، وعدة دواوين منها “لكننا لسنا دائما على ما يرام” و”صانع العاهات” و”رجل الهاي لوكس”.

الشعر والذكرى

بدأ عابدين من الشعر حيث يقول “أحبُّ كتابة الشعر، أما الآن فأجدني أفضل كتابة الرواية أكثر، لكني رغم ذلك لا أرى تفوقا لنوع إبداعي على آخر، فالشعر بالنسبة إليّ كالرواية، لا أرى أن أحدهما أفضل من الآخر، كل منهما يمنحني متعة من نوع خاص، ولا ألتفت للشعارات التي تنطلق لتميّز فنا منهما على آخر، وأراها استهلاكية أكثر منها وجهات نظر نقدية تسعى إلى تطوير الفن، وزيادة مساحة تلقيه لدى الجمهور”.

ويضيف “نعم لديّ ديوان شعر انتهيت منه منذ فترة، وقد كان من المفروض أن يصدر قبل رواية ‘بيت مخلوع النعل‘، لكنني فضلت أن أنشر الرواية أولاً، بعدها سوف أدفع بالديوان إلى النشر، لكن ذلك يحتاج لبعض الوقت، حتى أتيح لنفسي حرية التنفس، ومراقبة ردود أفعال القراء، والنقاد، لأني بالفعل أحبُّ أن أستمع لوجهات النظر التي لا أرى فنا قادرا على النمو أو التطور بغيرها، هذا الكلام أعني به النقاد المخلصين الذين يقدرون دورهم ويعرفون قيمة ما يقومون به، مثلما يعرف الشاعر أو الروائي قيمة أعماله”.

حمدي عابدين: الشعر كالرواية لا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر، وكل منهما متعة خاصة
حمدي عابدين: الشعر كالرواية لا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر، وكل منهما متعة خاصة

وحول روايتيْ “حجر جهنم” و”بيت مخلوع النعل”، يشير عابدين إلى أنهما لم تكونا أول علاقة له بالكتابة السردية، لافتا إلى أنه سبقتهما رواية كان قد أوشك على الانتهاء منها، كانت مخزنة على جهاز الكمبيوتر، إلا أن أحدهم حذفها ووضع مكانها بعض الألعاب الإلكترونية لتسلية أبنائه، فعل ذلك لأنه رآها غير مفيدة وبها مشاهد وصفها بأنها “قليلة أدب”.

وأوضح أن “الكتابة القصصية عندي وليدة رغبة ملحّة في الاستئناس بالحكايات، وحب الحواديت منذ الطفولة، فقد كانت أمي، وخالتي في زياراتها القليلة لبيتنا، وأخي الكبير منير هم منبع الونس ومصدر التسلية العجيبة والمدهشة، وما زلت حتى الآن أتذكر حكاية “أورير صاحب الوزتين والطير” و”أمنا الغولة”، فضلا عن مسلسلات الإذاعة التي كنّا ننصت لها في ساعات الظهيرة، وشكلت الكثير من خيالاتنا، وجعلتني أحب الاستماع للحكايات أكثر من مشاهدة التلفزيون، ففي الأولى أنا أشارك في رسم المشهد وأتخيّل شكل الأشخاص وهم يتحدثون، لكن في الثانية، تكون مساحات المشاركة محدودة جدا”.

ويضيف “نعم في ‘بيت مخلوع النعل‘ و‘حجر جهنم‘، قبلها، توجد مساحة كبيرة لما يمكن تسميته، تفاصيل من أيام عشتها، ذكريات، وشذرات كثيرة حاولت لملمتها، لأصنع منها ما يمكن أن يقيني شرورا كثيرة، أهمها النسيان فهو عدوّي الأول، الذي أعمل على مواجهته يوميا، كي لا أسقط في براثنه، وأتعلّم مما مر بي، كيف أعيش الحياة، وأتقيها في نفس الوقت، أغالب بالكتابة الروائية، الظلام الذي يمكن أن يلفّ عقلي، وأسعى إلى كشف وفضح من مرّوا بي، ومررت بهم”.

ويكشف عابدين أنه “في ‘بيت مخلوع النعل’ حاولت أن أستحضر ذكريات طفولتي التي عشتها في بلدتي مغاغة، كنا نسكن في منزل محاط بخليط من الجيران مسلمين، ومسيحيين، كانوا كثرة، ولم يكن هناك في تلك المساحة الصغيرة التي يتشكل منها الشارع والكنيسة، سوى المحبة خالصة، وحقيقية، لم تكن النساء هناك يطبخن، أو يخبزن من أجل أسرهن أو عائلاتهن فقط، ولكن كان هناك دائما نصيب مقدر يصل لكل أسرة، كان بسيطاً أي نعم، لكنه ظل مصدر سعادة لنا نحن الأطفال الصغار. من هنا حاولت أن أستحضر هذه الروح بعد ما ساد في بلدتي والكثير من البلدان الصغيرة من حالات تعصب، رفضته، ورأيته غريبا على مجتمعاتنا”.

ويؤكد عابدين أن هناك بالطبع مساحة عريضة من الخيال، على مستوى الشخوص والأحداث، لكنها ظلت محسوبة لخدمة العمل الذي سعى إلى رسم عالمه، وتفاصيله، أما جغرافيا المكان، فقام برسمها بدقة، حتى أنك لو زرت مغاغة، وأردت أن تذهب إلى الأماكن التي يدور جزء من أحداث الرواية فيها، سوف لن تخونك قدماك.

حرامي الغسيل

الكتابة القصصية وليدة رغبة ملحّة في الاستئناس بالحكايات
الكتابة القصصية وليدة رغبة ملحّة في الاستئناس بالحكايات

يلفت عابدين إلى أنه في “حجر جهنم”، كتب حتى لا يصاب بالمرض، أو يموت، يقول “كانت الكتابة في تلك الأوقات بالنسبة إليّ نوعا من المقاومة، بعد أن وجدت نفسي في بلد لا أعرف شوارعها، ولا أسماء أحيائها، وأجهل طبيعة ناسها.

كنتُ كمن يسعى إلى إثبات وجوده، وأنه ما زال موجوداً على قيد الحياة كل ساعة، وكل يوم، كتبتها في 6 شهور تقريبا، كانت التجربة الروائية الأولى بالنسبة إليّ، وظللت أعمل عليها طوال تسع سنوات، وقد وقّعت عقد طباعتها مع أحد الناشرين، ثم سحبته، حتى جاءني صديقي الناشر الراحل أحمد إبراهيم، وقال لي لا بد أن تنتهي من هذا العمل، وتفرغه من روحك، ووعيك، وهذا لن يحدث إلا إذا قمت بنشره، لتبدأ في كتابة عمل آخر”.

ويقول عابدين إن “كتابة الشعر تحقق لي متعة كبيرة، ولحظة الانتهاء من كتابة قصيدة لا تزال تشكّل لي متعة كبيرة، لكن الرواية تعطيني الكثير من الحرية، فأنا أصنع الشخصيات، وأرسم ملامحها، وأدخل في حوارات طويلة معها، وأشكّل بعضا من مصائرها، لكنني أيضاً أشعر بكثير من السعادة حين أجد شخصية ما تستعصي على ما قررته بالنسبة إليها، وتخرج عن إطارها ومسار الأحداث التي رأيتها فيه، وترسم مصيرها بنفسها، في تلك اللحظات أضبط نفسي كثيرا وأنا أداعبها وأمزح معها”.

ويرى أن الشخص الذي يعيش على إبداع سواه، ويظل ينتظر حتى ينشر كاتب أو مبدع عملا، ثم يقوم بقرصنته، والاستيلاء عليه، ليحصد منفعة أيا كان شكلها، لا يقلّ في رأيه عن أي لص جبان، عاجز عن الكسب من عمل يده، هذا الشخص مثل حرامي الغسيل الذي يسرق ملابس تتسخ في يده لأنه يحاول أن يهرب بها فيجرّها في الطريق.

واختتم عابدين حديثه بأنه يتمنى التعامل مع مؤسسات النشر الحكومية، فقد قام بطباعة أول ديوان له عام 2000 في هيئة الكتاب المصرية، وهو “لكننا لسنا دائما على ما يرام”، لكن الحقيقة “أن هذا يحتاج إلى انتظار قوائم نشر طويلة، وبيروقراطية لا قبل لمثلي بها، كما أنني أحب أن أمارس حريتي كاملة في الكتابة، وهذا لا تتحمله مؤسسات وزارة الثقافة، فهي تبحث عن أعمال مقلمة الأظافر، ترسخ لها وتمنحها الجوائز، وتتباهى بما تضعه على وجهها من مساحيق، تخفي الكثير من البثور في وجه المجتمع، وتمنحه ملامح مستعارة”.

15